Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد

شعرية العتبات النصيّة في ديوان (فوق شهيقي عابرة) لخالد الغامدي

اهتم الدارسون المحدثون بموضوع العتبات. ولعل جيرار جينيت من أبرز النقاد الذين أولوا العتبات بدراسات علمية منهجية معمّقة؛ إذ رأى أن «للعتبات أهمية كبرى في قراءة النص، وتأويله والإلمام بجميع تمفصلاته البنيوية المجاورة من الداخل والخارج، التي تشكل عمومية النص ومدلوليته الإنتاجية والتقابلية». وهكذا تتضح أهمية العتبات في فهم النص وتأويله؛ لذلك نستطيع أن نذهب مع الدكتور حافظ مغربي إلى أن «العتبات لم تعد أشياء مهمّشة كالسابق لا يلتفت لها».

وقد اخترت ديوان الشاعر السعودي المعاصر خالد الغامدي الموسوم (فوق شهيقي عابرة) أنموذجًا إجرائيًّا، عمدتُ من خلاله إلى دراسة العتبات النصية من حيث صور تجلّيها وما تتخذه من أشكال جمالية، وما توحي به من أبعاد دلالية. ولعل أول ما يصافح أعيينا عتبة العنوان الخارجية؛ باعتبارها الفلاش الأول الذي يطلقه المبدع لتحفيز القارئ وشد انتباهه لاقتناء الديوان أو الإعراض عنه. وهذه العتبة تقوم بتقديم الديوان دلالة وبناءً وتصورًا حول مضمون العمل الإبداعي.

وردت صيغة العنوان في ديوان خالد الغامدي (فوق شهيقي عابرة) شبه جملة، اختار له الشاعر أو الناشر أو كلاهما الكتابة بخط بنّي سميك محددًا باللون الأبيض وظلّ أسود يرتفع أعلى الغلاف، وهي صيغة تنفتح على أكثر من أفق قراءة وفهمًا وتأويلاً. كما تصدّر اسم الشاعر ثلاثيًّا عتبة العنوان الخارجي في لوحة الغلاف الأمامية، وسابقًا عليها، وبنفس الخط واللون، رغبة في تأكيد حضوره في المشهد الشعري، والاحتفاء بمنجزه الإبداعي، وتكريسًا لكينونته الإنسانية والأدبية معًا. ثم عمِد إلى إثبات العنوان الأجناسي بخط رقيق ولون أبيض لتحديد جنس العمل الإبداعي، وتُمثله صيغة «شعر»، وهو الثاني في مسيرته الشعرية بعد ديوانه (الأكسجين المر)، وكلاهما يلتقيان في دلالة تصاوير الحزن ومرارة الألم وارتفاع شهقة الآه التي ارتفعت حتى في طريقة رسم العنوان إلى أعلى الغلاف.

ثم تجاوز إلى المستوى الإشهاري مشيراً إلى مكان الإصدار مثبتًا شعاره (جودي للإعلام والنشر). وفي الغلاف الخارجي الخلفي أعاد كتابة العنوان والاسم يمين الصفحة، كما ظهرت صورته عليه بوصفه تقليدًا متّبعًا عند أغلب الشعراء المعاصرين. وعلى يسار الصفحة الخلفية ظهر هذا النص الذي جاء على النمط الكلاسيكي:

لماذا وهبتُ العابرين حقيقتي وقد كان أجدى لو أطيلُ وأكذبُ؟

أتحتُك في عمق الحشاشات منزلاً وإني على علمٍ بأن سوف تذهبُ

لماذا أقمتُ الصبر.. كي أقعِد الأسى لأني امرؤ كالشمس والشمسُ تغربُ

أجرّب في نفسي الحياة وأقتني من الذكريات الجمر يحيا ويلهبُ

صيغة يتوجه بها الشاعر إلى قارئه من خلال الضغط الاستفهامي الواضح؛ ليُحيل على الأزمة التي تعيشها الأنا الشاعرة في تجربة وجدانية تقود إلى إشكالية شعرية، يتردد صداها بين الأمل واليأس.

وإذا ما تجاوزنا العتبات النصية الخارجية إلى داخل العمل الأدبي تستوقفنا ظاهرة عنونة النصوص عند خالد الغامدي باعتبارها نقطة الولوج إلى عالم النص وتفسيره. والحق أن العنوان هو الذي يُسمّي القصيدة ويعينها. إنه - على حد تعبير أحد الدارسين - بنية رحمية، تولد معظم دلالات النص. والشاعر المبدع لا يختار العنوان اعتباطًا، وإنما بعد تأمل لأعماق تجربته مما يدل على أهميته على رأس النص وتنشيط المتن الشعري.

وبعد إجراءٍ مسحي غير عابر لديوان «فوق شهيقي عابرة» كشف أن الشاعر وضع عناوين لجميع قصائده تتفاوت شكلاً من حيث الطول والقصر؛ فجاء بعضها بصيغة الإضافة لتوضح طبيعة العلاقة بين المضاف والمضاف إليه في عتبة العنوان، وما يمكن أن ينطوي عليه المتن الشعري من دلالات تغذّي الرؤية العنوانية على نحو (سوْرة الكأس / نشوة الخوف / ملاح الرمل..)، وبعضها جاء على صيغة المفرد النكرة الذي احتل مساحة واسعة ومهمة من استراتيجية العنونة التي تشتغل عليها قصائد الديوان، وهي صيغة أثيرة لديه لبساطتها وانفتاحها على دلالات متنوعة نحو (أرق / قصيدة / إنسان / قوس). كما تنتشر في ديوانه العناوين الجملة وشبه الجملة، نحو (الحزن على سبيل المتعة / القادم من الداخل / احتميت بأعدائي/ في الأبواب / في راحة الملكوت / لا ترشديني إلى النسيان) وغيرها. وهذا النوع من العنونة يحتاج إلى قراءة عميقة؛ لأن تفكيك الجملة الشعرية حين تكون عنوانًا لقصيدة يحتاج إلى استنطاق تفصيلي لحركية الدوال المؤلفة للجملة من جهة، ودرجة علاقة هذه الدوال الأخرى المؤتلفة معها من جهة أخرى.

كما أن بعض عناوينه جاء استهلاليًّا، وكأن القصيدة تبدأ بالعنوان، والعنوان هو القصيدة ذاتها. والعنوان والمطلع كلاهما على نفس الإيقاع والتكوين والرؤية، حتى أننا لا نستطيع الفصل بينهما على نحو (إلى المجهول / أكنت معتذرًا / صدق فديتك / أغلقت بابي). وهذا النوع يعد من العناوين السهلة، غير أن الشاعر لجأ إليه بقصد الإشارة إلى علاقته بمعاني القصيدة، واحتفاءً بالمطلع، وتهيئة للقارئ للدخول معه إلى جو القصيدة.

الشاعر خالد الغامدي شاعرٌ يُحسن اختيار عتباته الداخلية والخارجية، ويبنيها على أساس مجموعة من الاعتبارات الفكرية المتصلة بالشاعر، والجمالية التذوقية المرتبطة بالمتلقي؛ كي لا يسيطر نمط معين على أسلوبه، وتشكيل عناوينه، فيملّ القارئ تواترها؛ ولذلك فعناوينه تدل على التأنق في الاختيار، والوعي بتجربته الشعرية بطريقة تثير فضول القارئ لاقتناء الديوان وقراءته..

مستورة العرابي - الطائف