Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد

سيرورة التاريخ الإنساني بين تدبير الخالق وفاعلية البشر (1)

أريد أن أدخل إلى الموضوع من مدخلين، يشتمل المدخل الأول منهما على نقطتين، النقطة الأولى هي أن موضوع فلسفة التاريخ الإنساني بشكل عام، يقوم على الابتعاد عن الركائز التي يعتمد عليها التاريخيون في عملهم، ومن أبرزها مثلاً أنهم ينشغلون ويعتنون بتسجيل الحوادث الماضية المحددة زماناً ومكاناً بكل تفصيلاتها الجزئية، وبصورة تستقل فيها كلُّ حادثة عن غيرها غالبًا.

والنقطة الثانية هي أن الاتجاه في هذه الفلسفة يقوم على استبدال النظر الضيق إلى الحوادث الجزئية أو الفرعية المنفردة، بالنظر الواسع الشامل الكلي، الهادف لتكوين الانطباع العام، والوصول إلى تاريخ عالمي يقوم على (العلل المشتركة).

وبناء على هذا أستطيع أن أوضح المقصد بشكل أكثر تبسيطاً ومزجًا بين النقطتين فأقول:

فلسفة التاريخ تعمل على صرف المتعامل مع التاريخ، عن أسلوب تقصّي الأخبار وتدوين كلِّ تفاصيلها الدقيقة والنظر فيها بشكل يعزل بعضها عن بعض.. وبالتالي - أي بعد هذا الصرف - يصبح هذا المتعامل مع التاريخ فيلسوفاً يتأمل وينقد التاريخ ككتلة واحدة كبيرة، تنقسم إلى كتلٍ كبيرة أخرى أصغر، للخروج بالقواسم والعلل والملاحظات الكبرى المشتركة المؤثرة فيه، أي في التاريخ الإنساني ككل.

ثم أريد أن أدخل بطريقة أخرى، من خلال نقطة تلحُّ عليَّ وأراها تلامس عنوان هذه المقالة، فأقول: كلّ إنسان هو إما «مؤمن» وهم غالبية البشر، أو «ملحد» وهم الأقلية المخالفة للمألوف، أو «لا أدريّ» وهو المتوقف المتسائل أو الشاك المتذبذب... إلخ.

والمؤمن إما أن يكون من أتباع الأديان السماوية، أو من أتباع غيرها من الأديان الأرضية المؤمنة بوجود خالق أو إله، أو من أتباع الإيمانات الأخرى، مثل الإيمان بالله وفق مذاهب لا دينية، كربوبية توماس بين، وفولتير، والمعرّي، وروسو، وغيرهم.. أو وفق رؤية فلسفية مرتبطة بدين، كالوجودية المؤمنة، ذات الصبغة المسيحية؛ أعني وجودية كيركيغارد وغبريال مارسيل وأمثالهما.. أو غير ذلك من الإيمانات الفلسفية الأخرى، كالإيمان الضميري عند كانط، والإيمان العقلي عند ديكارت إن صح الوصف.

وبالتالي وباختصار شديد: الإيمان بوجود خالق مدبر لهذا الكون، مهم جدًا في موضوعنا (حركة التاريخ)، فإذا آمن الإنسان بوجود الخالق، فإن هذا الإيمان يستلزم غالبًا الإيمان بوجود التدبير الرباني، ومن ضمن هذا التدبير الذي يستلزمه الإيمان بالخالق، التحكمُ في مسار الحياة والكون؛ ومن ذلك مسار التاريخ الإنساني.. وبذلك يخضع الفيلسوف المؤمن بخالقه إلى هذه القناعة الإيمانية، التي تؤثر بالتأكيد في قراءته للتاريخ، وهذا لا يقتضي بالضرورة التوقف عن التفلسف والتأمل، بحجة أن التاريخ مرسوم سلفاً فلا داعيَ للخوض في فلسفته كما فهم البعض.

ذلك أن الاقتناع بوجود التدبير الرباني، لا يمنع من التعمق في فلسفة التاريخ، بل يدعم ذلك في نظري ويشجع عليه؛ لأننا ببساطة إذا آمنا بربنا الخالق العظيم، سنؤمن بنواميسه وقوانينه وسننه الكونية.. وهذه السنن والنواميس الكبرى المؤثرة في التاريخ في اعتقاد المؤمن، هي - في اعتقادي - ما يعتبره فلاسفة التاريخ (القوانين العامة الحاكمة للحراك التاريخي).

مع ضرورة التوقف عند إشكالية قد تظهر من كلامي السابق، وهي أن هناك من يؤمن - بصورة ما - بوجود الخالق العظيم؛ ولكنه لا يعتقد أنه يتدخل في حياتنا، وتُعبِّرُ تلك المذاهب الفكرية عن ذلك بأساليب مختلفة، منها فيما أذكر مثلاً: «خلق اللهُ العالمَ ثم تركه» تعالى الله عن ذلك.

وهؤلاء - رغم إيمانهم بالخالق الذي يسمونه مثلاً «المهندس العظيم» - يشتركون - بلا أدنى شك - عند خوضهم في (منطق كشف تاريخ الإنسان)، مع الملاحدة في النظر إلى تلك القوانين نظرة مجردة غير خاضعة للسلطة الربانية الحكيمة، التي نؤمن نحن بها والحمد لله.

كانت تلك التوطئة هامة جدًا في تصوّري، وبعدها أقول:

يتفقُ غالبُ مَن مرَّ عليَّ كلامه في هذا المجال، وإن اختلفوا في الأساليب التعبيرية.. يتفقون على أن هناك قوانين عامة ثابتة تتحرك وترتقي وتسير وتتطور بها ومعها الأمم والشعوب، على مر الأجيال وفي مختلف العصور والدهور، وكل كلامهم المشابه لهذا جميل ومفيد وصحيح في نظري؛ ولكن الاختلاف يقع حين يتحدثون عن خطط (الإرادة العليا) المدبرة لكل ما يجري ويحصل.

ولا شك أني كمؤمن أقتنع بوجود تلك الخطط وذلك التدبير، ولا شك أيضًا ولا ريب أني مؤمن بأن تلك الإرادة هي إرادة الله الخالق المدبر العظيم.. وهذا لا يستلزم إبطال جهود العاملين والمجتهدين والناجحين من البشر، الذين ساهموا بطرق كثيرة في الرقي بأممهم وتقدمها وتغيراتها المختلفة.. فلا تعارض عندي أبدًا؛ لأن الأقدار الإلهية -ببساطة - هي التي وضعتهم في هذه الأماكن وأمدتهم بالقدرات والأدوات والإمكانات التي جعلتهم يقولون ويفعلون ما قالوا وفعلوا، ضمن مخططات الإرادات العليا لسيرورة تاريخ البشريّة.

وما أكثر الذين يتفقون معي في هذا من أهل الفلسفة، ومنهم لوران، الذي يقول في كتابه عن فلسفة التاريخ: «إن التاريخ لا يمكن أن يكون مجموعة أهداف تتوالى بدون هدف أو معنى، فهو لا بد أن يخضع لإرادة عليا تمامًا كما أن الأحداث الطبيعية تخضع للقوانين التي تحكمها».. ثم يردف قائلاً: «وأختارُ الله كمتحكم في سير التاريخ». ولكن غير المؤمنين أو غير المقتنعين من الفلاسفة والمفكرين لهم رأي أو آراء أخرى، فبعضهم ينفي كليًا وجود قدرة أو إرادة عليا مدبرة، فيرجع التغيرات العظيمة الإيجابية في التاريخ مثلاً إلى فعالية بني الإنسان، وبخاصة عظماء البشر وأبطالهم، أو إلى العقول وحدها، أو إلى العوامل الاقتصادية، كما فعل ماركس مثلاً، وأذكر هنا أني دونتُ في دفتر قديم خلاصة مختصرة حول ماركس والتاريخ، وهي أن ماركس - رغم أنه كان من الطلاب الهيجليين في الجامعة - اختلف مع هيجل في السبب أو العامل الأقوى الذي يُحرك التاريخ، فهو عند هيجل «العقل» فالعقل عنده هو المحرك الحاكم للتاريخ عن طريق الفكر.. أما عند ماركس فالمحرك هو «الظروف الاقتصادية» دائمًا وقبل أي شيء آخر.

يرى الكثيرون أن بدايات ظهور مصطلح «فلسفة التاريخ» ترجع لعام 1756م أو 1765م ويبدو أن هناك خطأ في أحدهما، رغم تكرر التاريخين في عدد من المراجع.. لقد بدأ ظهور هذا المصطلح في العام المذكور في بحث نشره الفيلسوف الفرنسي فولتير، ثم أدخله لاحقاً في كتابه الرائع (مقالة عن أخلاق الأمم وروحها).

وقد وجدتُ كثيرًا من الباحثين العرب يستخرج من بحث فولتير السابق تعريفات جميلة لفلسفة التاريخ، ومنهم الدكتور جميل موسى النجار، الذي يقول: «كان فولتير يعني - بمصطلحه المبتكر هذا - أن يُدرسَ التاريخُ على أسسٍ تحليلية نقدية، يلتزم فيها المؤرخ بنوع من التفكير التاريخي يمكّنه من تمييز روايات التاريخ على وفق تلك الأسس؛ لاستبعاد غير المعقول منها».. ثم يربط الدكتور بروعة فائقة بين تعريف فولتير السابق لفلسفة التاريخ وتعريفه للفلسفة بشكل عام، فالفلسفة عند فولتير هي (التفكير المستقل الذي يستند إلى النقد والتحليل).

أعتقدُ أنه من المهم أن نقرأ التاريخ ورواياته.. من الرائع الماتع النافع أن نتعرف ونطّلع على قصص حروب ومغامرات وحضارات وأزمات وأحداث واستعماريات وهزائم وانتصارات وأنباء الشعوب الماضية، وعلى حكايات نشوء الدول والأوطان واستقلالياتها ونهاياتها وانهياراتها على مرِّ الأزمان، وعلى آثار وقصص المجتمعات وأخبار تطوراتها وتقلبات ثقافاتها وتغيراتها المتعددة.. ولكن فلسفة التاريخ شيء آخر مختلف عن هذا كلّه!. إنها لا تهتم كثيرًا بكل ما سبق، أو بصياغة أدق: لا تتوقف عند ما سبق، من اهتمامات التاريخيين المتمثلة في تسجيل وتوثيق وتقصّي وتمحيص الوقائع والآثار والمعلومات والأخبار.

لم يكن الخلاف أو الاختلاف بين فلاسفة التاريخ - فيما ظهر لي - اختلافاً حول معنى التاريخ أو طبيعة المعرفة التاريخية، بالقدر الذي كان فيه اختلافًا على التاريخ نفسه، بغية السيطرة عليه وتوجيهه والتنبؤ بمستقبله وتحقيق المكاسب والمنافع للإنسان من خلال استخلاص أبرز سماته وملامحه العامة المشتركة.

إذن - وبناء على ما سبق - نستطيع أن نقول بإيجاز: فلسفة التاريخ تبحث في «اللماذات» وقد يقول البعض: التاريخيون أيضًا يجيبون عن أسئلة تبدأ بـ «لماذا» من قبيل: لماذا حدثتْ المعركة الفلانية؟ لماذا انهارتْ الدولة الفلانية؟ ما أسباب انتصار الحاكم الفلاني؟ ما أسباب الغزوة الفلانية؟ علّل حدوث كذا وكذا وكذا من الوقائع والحوادث والأخبار التاريخية الكثيرة اللا محدودة؟

فأقول: الفرق كبير بين التاريخ وفلسفة التاريخ في هذا، وهو أن فلاسفة التاريخ يبحثون عن إجابات كلّية شاملة واسعة عامة، لا جزئية ضيقة خاصة؛ أي أنهم لا يتوقفون عند سبب معركة معينة أو قيام كيان سياسي أو انهيار دولة أو حصول أي حدث محدد.. بل إنهم من جهة: يحللون ويعللون الوقائع التاريخية الماضية بصورة كليّة، لاستنتاج واستنباط التوقعات المستقبلية.

ومن جهة أخرى: يبحثون في التاريخ عن القوانين التي تحرك المجتمعات، وقبل ذلك يتساءلون: هل المجتمعات حقًا تتحرك؛ تقدمًا وتقهقرًا وصعودًا وانهيارًا - في أيِّ مجال - وفق قوانين معينة، أم أنها أمزجة وأهواء الحكام والسلاطين، وحظوظ وصدف الشعوب والأوطان؟!

ومن جهة ثالثة: فلسفة التاريخ تنشغل بالدواعي والتعليلات والعوامل والتبريرات أكثر من انشغالها بالكيفيات والآليات ووصف الأحوال، إن كانت تنشغل بذلك أصلاً.

وهناك من يرى أن طبيعة فلسفة التاريخ تكمن في كونها معرفة اجتماعية تتميز عن غيرها من المعارف، ببحثها في الاتجاه العام لسير البشرية، لإيجاد قانون عام يحكم التاريخ الإنساني، فوظيفتها الأساسية - وفق رؤيتهم - هي إماطة اللثام عن النظريات التي تقوم بتأويل الأحداث التاريخية وإعطاء معنى لها؛ بجانب وظيفتها الأخرى الأساسية السالفة الذكر، أعني كشف القوانين المتحكمة في المسيرة التاريخية.

ومن جهة أخيرة: الفلاسفة يجتهدون دائمًا في الإجابة عن أسئلة تاريخية كبرى ويهتمون بها أكثر من اهتمام التاريخيين، مثل: ما هو العامل الأقوى في نشاط المجتمعات وتحولاتها وحركاتها المختلفة وانتقالها من حال إلى حال في مختلف الأزمان؟.. أهو العامل الديني أم الاقتصادي أم الاجتماعي أم الطبيعي، أم غير ذلك من الدوافع والعوامل؟!

ومثل: ما هي طبيعة علم التاريخ؟.. وما هي علاقته بالعلوم الأخرى؟.. وما هي مقاصده الكبرى ومراميه؟.. وقبل ذلك: هل له غاية أصلاً؟ وما هو دور الإنسان في كل ذلك؟! وستظهر الإجابات عن كثير من هذه التساؤلات وغيرها من شبيهاتها في المقالات القادمة - إن شاء الله -.

وائل القاسم - الرياض