Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد
13/12/2014

عندما يكون الماضي عبئاً ثقيلاً

لم تنشغل أمة – في ظني – بماضيها كما انشغل العرب، مع أنه لم يكن انشغالاً يؤدي إلى تمحيص ذلك الماضي، والبناء على ما يصلح منه لتأسيس الهوية الجامعة، وتحصيل الثقة في الهياكل الاجتماعية السليمة، لتكون مصحوبة بالنظر إلى المستقبل. فأصبح العربي في العصر الحديث غير قادر على اقتحام الأشياء، بل كل ما يملكه هو الدندنة حول الأشياء.

وقد كانت الحضارة العربية بصفة عامة تبدأ بالكلي، وتنتهي بالجزئي؛ بينما العالم الآن يقلب هذه المقولة؛ ولم نلتفت إلى ما أصبح عليه العالم، لنبقى نقدم القاعدة على الأمثلة، وينطلق كثير من الشعراء من البحر والقافية لا من التجربة، كما أن الجذر الثلاثي هو الذي يحكم دراسات اللغة في التراث قديماً وحديثاً. ولأمر ما بدأت القصيدة بموضوع كلي هو الحديث عن الطلل، وإذا بدأنا البحث وضعنا كلمة ملخصة وقاعدة ذهبية ورأي حاسم؛ بينما البحث العلمي ليس كذلك إطلاقاً.

وحسب ما ذكره الفيلسوف العربي في المهجر عبده بدوي، فإن جزءاً كبيراً من المعوقات عن التخلص من ربقة الماضي تعود إلى أننا حبسنا عقولنا في دوائر التخلف والقلق والقبول بالواقع، والأخذ بالأحوط بل ونسينا أننا لن ندخل الحضارة الحديثة إلا بتأشيرة اسمها «الابتكار»، ولن نصل إلى الابتكار إلا بشيء اسمه «العلم»، ولن نصل إلى العلم إلا بشيء ثمين جداً اسمه «حرية الفكر». ثم إن التعامل مع التكنولوجيا سيظل دائماً دون جدوى، ما دمنا مجرد مستهلكين لمنتجات الحضارة، وما دمنا لسنا على وعي بتحول العلم الآن إلى الطبيعة للسيطرة عليها، وما دمنا لا نقابل بين الفكر والشيء؛ وإنما نقابل بين الشيء والشيء، وما دمنا ننطلق عادة من المصادر الأدبية – لا العلمية – وكثيراً ما تكون هذه المصادر ثانوية وغير موثقة، وما دمنا نتبع على رأي القدماء «الأهواء» لا «الآراء» و»عالم الأعيان» لا «عالم الأذهان»، وأخيراً ما دمنا نستخدم لغة غير منضبطة، ونجعلها هي التي تقودنا إلى الطوفان.

لا بد للخروج من هذا المأزق من نشر خريطة واضحة للعقل العربي، لنضع أيدينا على مكونات هذا العقل، ثم لا بد أيضاً من التخلص من آفتين تضيعان الفكر العربي عن التماس الطريق؛ إحداهما التشبث بالاهتمام بصاحب الرأي بدلاً من الرأي، وأخراهما الحرص على السير في الطرق المعبدة، ومعاداة أو نبذ كل من التمس طريقاً جديدة يمكن مقارنتها بالطرق المعهودة.

بل إن الأمر تجاوز المنطق العلمي والجدل الكلامي إلى مستوى الفنون، حيث سيطرت عناصر مثل القبة والقوس والنقوش الكتابية على مساحات العمارة ودلالاتها. وكأن الإبداع الذي قام به القدماء كان ملزما لتقليده، وليس لإبداع ما يتجاوزه حسب وظائف البناء وبيئته. كما احتل البعد الوجداني مكان البعد الثالث في الفنون (الذي تجاوزه العالم الآن إلى البعد الرابع)؛ من أجل ذلك تكون الثغرات موجودة بين مراحل إنتاج الفن وتلقيه، لكنها تجسر بذلك التفاعل الوجداني، الذي يصلح في تقبل المجايلين له، لكنه يندثر، وتبقى مراحل الفن غير مكتملة.

كل هذه الاهتمامات بما تجسد في الماضي، وأصبح تاريخاً للعرب في فترة ازدهار مضت، جعلت الوجدان العربي غير قادر على الفصل بين قيمة التاريخ المعنوية، وقيمة العمل الحاضر لتحقيق ما يتماشى مع العصر الحاضر؛ أي أن هواجس العربي المعاصر صارت مشتتة في تلك الازدواجية. وهي التي أصبحت تشكل مجالاً خصباً للتناقض في الحكم على الأشياء، حسب من تصدر منه، والتيار الذي يمثلها، كما تجسدت في مبالغات الموازنة بين أشياء لا تقبل أن تجتمع في محيط واحد، بحجة العقل والاتزان والتروي.

- الرياض