Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد

إنَّ ذاكرةَ الحُزنِ تَنْسَى

(1: حِيْلَةُ الجَدْوَى)

كم مرّة أنتَ عالقٌ / وعالقاً في شركِ الجدوى من الكتابة، (إيّاكَ أنْ تربُطَ مصيرَكَ بالجدوى) يقول الوعيُ في جانبه اليَائس، ويخُلّ فيكَ الميزانَ الفطريَّ، الميزان الأقرب للتكيّف مِنْ أيٍّ منطقٍ اصطناعيٍّ إنسانيّ؛ فكيف تقدر الآن أن تزيحَ ما ألقاهُ على كاهلك من حمولاتٍ ثقيلة تحاكمك على جانبٍ في الوعي يستمتع بالدنيا وليس يُبالي غرور الجدوى.. «خفّف الحمل» ربّما تعود أكثر خفّة كما كنتَ: أنّ الحياةَ على ديدنِهَا دوران في السعادة والألم.

الحكايةُ في اصطراعٍ بين جوانب في الوعي لا تستقرّ على حالٍ، ولا ينبغي لها، والوعيُ كلّما أثقلته زوّرتَهُ وصار حملاً، وكلّما أصقلتَهُ نحتَّ منه زوائدَهُ صار محمولاً، وكيفما كان: (مزوّراً، ضلّيلاً، سليماً، فاسداً..) كُلّها نسبٌ وظنٌّ؛ ثمّ إنّكَ لا تتوبُ عن حياةٍ تأخذُكَ ليأسٍ وتأخُذُها لطاولةٍ: مُنفردين / وحيدين؛ لا تُريدُ لأحدٍ حولك، أن يطّلع على تفاصيل التفاوض مع اليأس، فلَهُ عبثُ حصادِهِ ولكَ الحقّ في السعادةِ، فاحذرِ التفريط بحقّ السعادة، وإيّاك ألاّ تسعى إليها بما لا يخدش النفس أو يعتدي على أحد، والعهدُ بينكَ واليأس: أن تُبقيا على سريّة المعاهدة، فلا أنتَ تخذلُ اليأس بانتماءٍ إلى أملٍ مزوّرٍ، ولا هو يكشفُ عمّا بينكما من عروةٍ وثقى كلّما رآكَ مورّداً بالضحكات، أو أنّك حليفه في اضطرابات الوعي المسنون، ولا يغارُ منكَ حينما توغلُ في مُتَعِ الحياةِ دون فلسفته العقيمة.

• أمّا الجدوى وَهْمٌ سجّانٌ، فاضحكْ عليها قدر ما تستطع.

ولستَ طيراً، كما وسوسة في روحكِ أنّكَ: (كُنتَ طيراً)، فانظُرْ ألا تَرى، وما عهدُكَ بالطيران إلاّ الخفّة فأزحِ الحملان عن كاهلِكَ: إنّ الأرضَ سهلٌ وأنتَ كمَنْ يخشى في خطواتهِ / ما أوصاكَ به ساكنُ المعرّة.

والْتَفَتَّ، وكان الوعيُ قريباً بالمرصادِ، والأنباءُ هطولاً متراكماً فوق رأسك، في عينك، وهذا الخافقُ ليس على اتّفاقٍ، لستَ تفلتَ من حصار الأنباء، وقد صار العالم في قبضة يديك، لا ينامُ ولا تنامُ، ولكم أنتَ تُصابُ بالظنّ وبالخيبة، حينما تقلّب في آلة موبايلك لعلّ الأنباء بين وقتٍ وآخر تعتدلُ، لعلّ (خبراً عاجلاً) يغيّر من عادته المربوطة بالأنباء الهالكة والمهلكة فقط.

• مَنْ ورَّطَكَ بهذا المسّ العصبيّ ثمّ انزوى وتوارى!؟

• مَنْ ليس لَهُ في العهدِ ذمّةٌ.

كم مرّة قطعتَ للنفس عهداً: أنّك لست بعائدٍ لهذا التوتّر الذي يربك دمك ويعلّ قلبك؛ لست كالذي يستهويه النشرُ، صَهْ: هذا العبث الكتابي، عُدْ للهو، عُدْ لأيلولةٍ في دمِكَ تتجدّدُ، عُدْ للضحكاتِ لا تلتفت للجَدِّ، قال الجدُّ.

(2: والحالُ والمآلُ والقالُ مكرورُ)

مُنْذُ دورةٍ في الإنسانِ، حين يكادُ الوعيُ يُكمل دورتَهُ، لستُ أريدُ لهذه الدورة أن تنتهي أو تكتملُ؛ لا أظنّ أنّني اطّلعتُ على كثير اختلافٍ في الجدل المطروح كجسدٍ مُسجّى بين دُعاةِ تقليد / ودُعاة تحديث؛ وتحديداً، كشّفَ الربيعُ عن ساقِهِ كشفاً فجّاً، لا أسرار في الساقِ، لا حيلة في القوارير؛

خطابان ودمٌ بدمٍ، حتّى وصلَ الحالُ والقالُ حدود في الملَلِ / التشابهِ ما يُعلي اليأس، صار الكلامُ قبل نُطْقِهِ مسموعاً، فأنتَ تعلمُ ماذا قد يكتب هذا، أو يكتب ذاك: (فتعالوا إلَى حُنْدُسٍ نَتَصَادَمُوا)؛

هكذا أكتبُ لمجموعة من الناس ولا أدهشهم بما معي من بضاعةٍ في قراءة الواقع، وهم قبل الاطلاع على جديدك /المكرور (يالهذه المفارقة العاقرة) مهيّؤون إمّا لرفضه أو لقبوله؛ حسناً، ما نفعُ الكتابة في هذا العماء اليؤوس؟! ولكنْ مرّة أخرى، أو بأسلوب مختلفٍ: لماذا الإصرارُ بأنَّ للكتابةِ غاية، لماذا لا تعترفُ بالعبث واللا - جدوى!؟ فشتّانَ بين: (تَكتُب لتُرَى، وتكْتُب لتَرَى، أو تكتب طمعاً في أثرٍ، أو حاجةً في محوِ أثرٍ فيك).

(هَامِشٌ: ذاكرة الحزن)

على بابِكَ الآنَ يا سيّدي اليَأْسُ، حَشْدٌ مِنَ المُحْبَطِيْنَ، ومَا دَلَّهُم في الهَاجِرَاتِ عَلَيْكَ سوَى أَمَلٍ، صَقَلَتْهُ يَدُ الحِرَفيّينَ في عَجَلٍ، طَمَعاً في مُتَاجَرةٍ أَيُّهَا اليأسُ، والسَّوقُ في النّاسِ أَمْرُهُ أَشْبَاحُ.

قُمْ إلى حِيْلَةٍ تُرْجِعَ الضحكاتِ إلى أَهْلِهَا، إنَّ ذَاكِرَةَ الحُزْنِ تَنْسَى، فما جُنْحَةٌ في النوَايا، ومَا ضَيْرٌ، تَدورُ العقولُ بِمَا حُمَّلَتْ، «والصَّبَاحُ ربَاحُ».

(3: اعترافٌ)

• مَنْ أنتَ أو مَنْ أنَا؟

السؤالُ بحدِّ ذاتهِ حادٌّ: خطلٌ وخلطٌ، يسنُّ بمديّتهِ إطاراتٍ مُتعدّدة الأشكالِ كُلّها أَسْرُ وسِجْنُ، (جُبّةٌ واحدةُ وشخصيّةٌ واحدةٌ)، وهو ما لا يمكن تماثله تطابقاً معَ (من أنتَ؟) ومعَ (من أنَا؟) في الواقع المتعدّد الذي هو واقعٌ فوقَ رأسِكَ ورأسي.

مَن أنَا؟ كلُّ التصوّرات التي قدّمها الآخرون عنّي «صحيحٌ أنّها تعبيرٌ عنهم»، لكنّها تحملُ شيئاً منّي، ولكَمْ يضنى المرءُ إذ يحيا بخلَلٍ في موازينه، تكيلُ بمكيالين: وتفرز انتقاءً عسلاً وإقصاءً مُرّاً، فأيّ تصوّر تُحبُّه الأنا يقرّبه، والتي تعوفُهُ يُقصيه.

أنتَ كلُّ ما يتصوّرهُ عنكَ الآخرون / (الجحيميون) وفوقها أو دونها، ولماذا الآخرُ جحيمٌ؟ لأنّهُ العارفُ بتعدُّدكَ، أيّها الزاعمُ أنّكَ واحِدُ، الرافض أن تعترفَ حتّى بينكَ وبينكَ: أنّكَ حيٌّ في التناقُضِ والتَّعارُضِ والتضارُبِ؛ أنتَ مجبولٌ على المفارقات.

(4: اختلالُ الانتماءِ إلى مفقودٍ في الواقع)

• (هل كنتَ تنتمي إلى أيّ مذهبٍ فكريٍّ غربيٍّ؟..)

في البدء، لا ينتمي هذا السؤال إلى أفقٍ حزبيٍّ أو عقائديٍّ، على الرغم من أنّه رافقَ الفتى قديماً، في مراجعات سياسيّة في محطّاتٍ عدّة، حينما كان يستمعُ إلى أشخاص يصنّفون أنفسهم أو غيرهم: بالشيوعي، أو الديمقراطي أو غيرها من تصنيفات فكريّة ليس لها انعكاس في الواقع؛ كيف تنتمي إلى مذهبٍ فكريٍّ (أيّاً كان...) ولا تنتمي إلى معناه الواقعي على الأرض؟ كان هذا مدخلٌ في رفض انفصال الانتماء بين الفكر والواقع، وفي رفض الوهم الطوباويّ المتمثّل في قُدرة الفكر على تغيير الواقع، فالأصلُ فيما أذهب إليه أنّ الواقعَ سيّدٌ على الفكر والمفاهيم والمضامين، وأنّه صاحب الصيرورة والسيرورة، كما كينونته المتقلّبة شاخصة في الطبيعة، المادة، التاريخ، الحاضر، الإنسان.

وكان السؤال يُمثّل حرجاً أخلاقياً منذ باكورة الوعي السياسي (على علّاته) لأنّ تفكيك السؤال بواقعيّة وعلميّة أوصلت لاحتمالاتٍ فجّة، لم تَكُنْ تُرضي الفتى بين خياله وبين ماديته الواقعية وانتمائه؛ لقد كان يرى المسألة الانتمائيّة للفكر وهماً إذا لم يكُنِ الفكرُ إنتاجَ واقعٍ، وهو ما يكون في البيئة الحاضنة؛ وذلك ما يتعذّر وجوده في الدول العربية، وحجّته حينذاك: عن أيّ واقع في المذاهب الفكريّة الغربية نتحدّث؟! ونحن (تائهون وتائهين) في تأثيرات الخطاب الديني - السياسي.

(5: أنت خارج الزمكان)

هل أنتَ شيوعيٌّ؟ هل أنتَ رأسماليٌّ.. كيف؟ أو كيف كنتَ علمانيّاً حداثياً؟ أو ليبرالياً؟ أو ديمقراطياً؟ أيّا كانَ وعيكَ أو هواكَ أو على ماذا كانت مراهقتك الفكريّة السياسيّة؟

إنّ مأزق هذه الأسئلة الانتمائيّة - الفكريّة إذا شاءت الفرديّة العربية مراجعة الذات ونقدها تتكسّر رأساً على عقب، ذلك أنّها مبتورة عن سياقات واقعها العربي؛ بينما أسئلةُ من نوع: هل أنتَ سلفيٌّ، صحويٌّ، إخوانيٌّ، جهاديٌّ، قاعدويُّ، داعشاويٌّ...، قبليٌّ، حضريٌّ، أصلي / تقليدي، قطريّ، وحدويّ، عروبيّ، إسلامويّ... إلى آخر هذه المسمّيات، هي أقرب لسياقات الواقع العربي؛ واقعٌ لا يكون موجوداً إلاّ في مفردات التقسيم، إلاّ في التجزئة، وليس خدمة للفرد والفرديّة، إنّما هو واقع جماعة داخل جماعة، وداخل داخل جماعة، وهكذا دواليك، واقعٌ موبوءٌ بالتطرّف والعنصريّة والجاهليّة، يستغلّه إرهاب اليمين الديني - السياسي لتفتيت ما تبقّى من مفهوم الانتماء للوطن / للدولة، ليصبح الانتماء مرهوناً بانتماءٍ داخل الوطن وفي جزءٍ منه فقط: حزب ما أو جماعة ما، وتصبح الوطنية على مقاس ما تراه الأحزاب أو التيّارات، وطنية مجزّأة ترى جزءاً من الوطن فوق الوطن كلّه.

أسئلةٌ كهذه، يتطابقُ تفكيكها مع سياقات الواقع العربي، إذ يتطابق فكرُ المعتنقين لهذه الانتماءات مع واقعهم ومحيطهم تطابقاً استغلاليّاً بين أدعياءٍ ومُغرّر بهم؛ فكلاهما - حامل الفكر والواقع الذي يريده ويمارسه - ينفصلان عن الزمن، لكنهما لا ينفصلان عن بعضهما؛ بينما أنتَ (الذي تتورّط بأفكار علميّة، صحيح أنّها واقعيّة ومتطابقة مع الواقع، ولكنّها متطابقة مع الواقع الغربي، مع واقع أصحابها، لأنّهم قطعوا شوطاً في العلم وأنتجوا تلك المدارس الفكريّة - العلمية تطابقاً وتطويراً للواقع؛ بينما هي أفكار فوق الواقع العربي تحديداً، الواقع الذي يرزح تحت تأثيرات المضمون العثماني للسلطة، هكذا لا تكون أنت (منفصلاً) عن الزمن بوصفه حركة وحضارة بالضرورة والقوة، لكنّك منفصلٌ عن محيطكَ، لأنّك خارج المكان.

أعرفُ أنّ هكذا أسئلة تميل إلى اليأس، لكنّها لا تبيع بضاعة تخدّر فيها المنكوبين والمحرومين والحالمين والمتشكّكين. ولعلّك تقضي عمراً كاملاً وما زلت على عتبات الأبجديّات العلميّة الغربيّة إذا شئت هجرة الواقع، أو عمراً آخر حتّى تكفّ عن قراءة واقعك بعيون من خارج هذا الواقع إذا شئت هجرة الفكر.

(6: هجرةُ الفكرِ أو الواقع)

هجرةُ الفكرِ أو هجرة الواقع: أنتَ خارج الزمان أو خارج المكان، أيّها العربي الذي ينتمي إلى ما لا ينتمي إليه، ولعلّ في هذا التيه الانتمائيّ ما يجعلكما غُرباء - متشابهين، على الرغم من اختلافكما: فهذا ينتمي إلى ماضٍ ميّتٍ لا ينتمي إلى حيّ فهو خارج الزمان، وذاك ينتمي إلى حاضرٍ ليس واقعاً في حواضره ولا ينتمي إليه فهو خارج المكان؛

• فماذا تريدُ أيّها الخافِقُ منِّي!

• إنّي في شَكٍّ مِنْكَ.

ياسر حجازي - جدة