Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد

سعد البواردي

أستراحة داخل صومعة الفكر

13/12/2014

مطلع الفجر

إبراهيم أمين فودة

261 صفحة

من القطع الكبير

استهلالاً بهذا العنوان الجميل دعونا سوياً نستفتح بهذه الأبيات التي استقبل بها الأنصار مقدم رسول الإنسانية صلاة الله وسلامه عليه وهو يفد إلى طيبة الطيبة التي شدت أزره وحمته من مكيدة جهالة قومه.

طلع الفجر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

نعود معاً إلى الديوان.. إلى صورة شاعرنا كيف رسمها بريشة قلمه:

هذه صورتي تعبر عني

بحديث يكاد ينساب مني

في أقاسيم جبهتي ورؤى الـ

قلب وسيما وجهي ونظرة عيني

أثر من ملامح الفكر باد

وبريق يشع عن ذات نفسي

ومعان مشتقة من طباعي

وضميري وما يجول بحسي

فعساها تكون أفصح مني

وهي تبدي عني خبيئة صدري

دعونا نلتمس ملامح تلك الصورة من خلال مشاعره التي جسَّدها في ديوان شعره: «لا يحقن الدم إلا الدم».. عنوانه الأول مع القضية التي برحت قضية مستعصية الحل.. فلسطين وما أدراك ما فلسطين بكل ما تعنيه من احتلال، وإذلال وأهوال: موجهاً خطابه إلى بني قومه:

هذي فلسطين تدعوكم لنجدتها

عاث الغريب وضاع الحق والأدب

فيها لكم إخوة في الله تجمعهم

بهم وشائج منها الدين والنسب

قد عذبوا واستبيحوا في ديارهمو

وسوموا العسف وانتابتهمو النوب

لبوا النداء وذودوا عن محارمها

بالسيف والمال والأرواح تلتهب

هذه خلاصة قصيدته. وقصده ويبقى بنو قومه دون أذن تسمع.. ولا سيف يردع ولا مال يشفع ولا أحد يعلّق جرس الإنذار والانتصار على الهزيمة: «في مهد الشمس» واحدة من أوليات محطاته أشبعها ولاءً وفداءً وانتماءً لوطنه:

فداك قلوب حرة وصدور

فأنت بما شاء الفداء جدير

أيا وطناً أشرقت، والأرض ظلمة

وأظلمت والدنيا بنورك نور

الشطر الأخير يحسن أن يأتي على النحو التالي:

فنوّرت والدنيا بصبحك نور

ويا وطني يفديك شيب وفتية

بها العمر ثاو في القلوب ستير

شباب بلادي المستهام بحبها

تقدّم لما ترجو وأنت بصير

بصير الأنسب منها جدير

لنا فيك آمال جسام كثيرة

وأنت على تحقيقهن قدير

من حب الوطن إلى حب الحسن.. ومن فينا من لا تشده النظرة إلى الصورة الجميلة؟

أغفت حياء وألوت من محياها

وأرسلت نظرات العطف عيناها

جمالها الغض ري النفس حالمة

وفتنة مبدع الأكوان سوّاها

قد مرَّ بين يديها من يسارقها

لحظ القلوب وإصفاء لنجواها

لا أستطيب السرقة حتى ولو كانت في الحب، حسناً لو قال (من يبادلها).

وشاقه الحسن واستعدى الهوى قدر

في نظرة عرضت ما كان أحلاها

وشطت الدار حتى ليس يبلغها

فليت شعري هل يحظى بلقياها

مجرد نظرة حب يتيمة..

للحب عتاب بين الأحباب هذا ما باح به لمن هام بها حباً:

يا حبيبي إن أفشت العين سري

لست أخشى ملامة أو رقابة

إنني في هواك مُضنى أسير

ومعنىَّ أذوى الغرام شبابه

فترفق به كفاء لما فيه

فقد حطمت قواه الصبابة

مفردة (كفاء) غريبة على المشهد.. أنسب منها كلمة (وفاء) أو (دواء) لما يستشعره من ألم..

وتلطف في عتبه غير جاف

ما أحيلى من الحبيب عتابه

مقطوعة وجدانية كشف بها لفتاة أحلامه مدى ما يجتاحه من عشق ووله يتملّك مشاعره وشعره نحوها علها ترأف بقلبه وتطفئ نار غلبه.. هكذا المتيمون بهواهم يلقون بأسلحتهم دون صدام.. مكتفين بخطاب سلام غير مستفز..

هذه المرة في ديوان عشقه تخلى عن وداعته.. خرج عن صمته صرخ بصوته في وجهها:

يا ظبية جنحت للصد نافرة

مهلاً.. أغرك أن القلب يهواك؟!

وأنني بتُّ من حر الهوى سُهداً

كما تقلب ظهر بين أشواك؟

أشكو شؤون النوى قد جرحت كبدي

ولا مجيب لصوت النائح الشاكي

وتهدأ ثائرته رويداً رويداً.. يخفف من غلوائه نحوها يفتح أمامها نافذة الأمل

ردي الحياة على صبٍّ ذوى كلفا

إلى وصالك بل شوقاً لرؤياك

حاشاك أن تهجري عن جفوة وأنا

من قد عرفت هواه فيك حاشاك

مسكين قلب المتيم سرعان ما يتوسل الحب.. ويتسوّل الحبيبة لأنه الأضعف في معركة اللقاء.. مكوناته الشعرية الوجدانية ما برحت تراوح مكانها بين أخذ ورد وبين إيجاب وسلب.. هذا ما أمكن استخلاصه من الكثير من أدبياته (معك) و(عزوف) و(هوالي) و(جارة الوادي و(نبض قلب) وقد مررنا عليها مرور الكرام دون أن نتوقف، يقول إن الحياة شعر (وبدوري أقول إن الشعر لبعضهم حياة مجرد رافد يصب في نهر الحياة فيزيد من عذوبتها ومن عذاباتها:

صاح! هذي خمائل الأزهار

فأصغ للطير في ذرى الأزهار

صادحات أنشودة الأسحار

واتبعني وطلعة الفجر نجوى

تلهم الشعر في حنان ونجوى

أن في منطق الفجيعة شعرا

أي شعر يذكي شعور المعنى

يسرق الخطو للنفوس الهوينا

بعض مقاطع عن الحياة شعر.. ملاحظة في الشطر الثاني من البيت الأول ورد (فاصغ) الفاء في تقديرها زائدة..وعن صحوة الفجر بعض أبيات قصيدته:

أيها السادر في النوم العميق

آن أن تصحو.. قد حان البكور

فتيقظ.. ها هو الكون صحا

وانض عن جفنيك أحلام النعاس

واستفق.. واسمع أغاريد الطيور

إنها تشدو بأنغام السحر

جميل أن نصحو من سبات الحياة.. وأن نغرّد كالطير وقد عدنا إلى قواعدنا بمحصلة اليقظة.. النوم إغفاءة جسد لا بد منها لصحوة عمل لا بد منه..طائر البان لم يغب عن باله خاطبه شعراً بلغته هو لا بلغة الطير.. لا يهم ماذا قال؟!

يا طائر البان ما أشجاك أشجاني

هيجت شجوني واستوفرْت أحزاني

إن أنت أشجتك من دنيا الهوى شِرَع

تقسو عليك فشرع الحب أشجاني

حظي كحظك في دنيا الهوى محن

كأنا محن الأيام تهواني

يا طائر البان لا تجنح إلى هرب

عني وتجزع لصوتي أو لألحاني

فكم تألفت الأرواح عاطفة

ما بين بهم وأطيار وإنسان

خطاب شعري يتسم بالجزالة وجمال الطرح.. والتوصيف.. لا يخلو من بعض ملاحظات تحسن معالجتها، أولاها (استوفرْت) في الشطر الثاني من البيت الأول حبذا لو جاء الشطر كما يلي: (هيجت شعري كما عمّقت أحزاني) الملاحظة الشطر الذي يقول: (عني وتجزع لصوتي أو لألحاني) أفضل أن يكون هكذا (عني وتفزع لي صوتي وألحاني) لتلافي الخلل العضوي في بناء البيت.. رسالة من أعماقه بثها إلى بنيه.. ماذا تحمل؟

بني.. ويمتد عمر أب

بأبنائه خالداً في الفكر

تمد الحياة له فيهموا

فإن الثمار حياة الشجر

سأمضي بكم خير منحى إلى

لباب الحياة وأبقى الأثر

أزودكم خير زاد الورى

لركب الحياة وطول العمر

وما خير زاد الفتى والفتا

ة سوى العلم زاد كريم السير

ومن بعد أترككم راضياً

قرير الفؤاد إلى المستقر

رسالة وعظية مدادها حب.. وحروفها أبوة تأمل وتألم.. ملاحظة الثمار ليست حياة الشجر.. وإنما عطاؤه. ألمت بشاعرنا فودة وحشة هذا هذا بعض حصادها:

أو حش المنزل المغرد بالأ

مس وجفت منابر الأفراح

كان بالأمس مسرح اللهو والفتنة

والشعر، والهوى، والملاح

كان في لجة اللذاذة كالزو

رق في اليم سابحاً يتخطر

سالمته الأمواج حيناً طويلاً

ثم غالته فجأة فتكسر

أبيات أربعة هي من أجمل فيضه الشعري عبر ديوانه.. رسم الصورة كما هي الحياة نشوة وفرح.. تجديف على زورق العمر فوق صفحة ماء الحياة بأمان.. ما لبث أن عاجله الزمن فابتلعه اليم..

فارس رحلتنا خلا بنفسه في لحظة استحضار وتأمل.. ماذا قال؟!

منيت بنفس لو تبدلت غيرها

لطبت بها ما يستطيب الأصاغر

لأطيب نفس بالحياة غباوة!

جهول وهراع على الدف ناقر

فلو شئت أدنيت النعيم لراحتي

أكاثر باللذات والحظ وافر

وبئت بنفسي أن تذل لصاغر

يدل عليها أن اليوم آمر

أدين لأرباب العقول قناعة

بحظي ويعلو ما علوت الأكابر

عزة نفس تأبى أن تذل حتى ولو كان الثمن لكبريائه كبيراً.. لقد استهان الدونية والصغار حتى ولو كان المقابل كل أموال الدنيا.. وحدهم الذين يدين لهم بالطاعة والانقياد العقلاء الذين يصطفيهم في النصيحة والمشورة دون سواهم..

أخيراً مع نفحة زهر عطرة اختتم بها ديوان شاعرنا ورفيق رحلتنا إبراهيم أمين فودة: إنها مسك الختام

رويدك يا قلبي ولا تبئس إذا

أساء إليك الدهر وهو غدور

فما ذاك بالبدع الجديد وإنما

هو الدهر إلا أن تثور صدور

شكوت من الدنيا شكاة مريرة

تصَعّد حرّى والشكاة مكير

فلم تجدني.. بعد التحسر والضنى

سوى كمد بين الضلوع يفور

وما كنت من يشكو نصيباً لنفسه

فحظى برغم الحاسدين وفير

ولكن لي قلب يئن لغيره

ويشغله بالآخرين ضمير

ومن نكد الدنيا عليك وسخفها

إذا قادك الأعمى وأنت بصير

هذا ما قاله وعناه حب الإيثار لغيره لا لنفسه.. وما يمكن قوله بهذه المناسبة ما قاله شاعران من قبله.. الأول قال بيته الشهير:

كل من لا قيت يشكو دهره

ليت شعري هذه الدنيا لمن!

والثاني أيضاً قال مقولته الخالدة:

ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى

عدواً له ما من صداقته بد

أنتهت الرحلة بسلام.

- الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338