Saturday 14/06/2014 Issue 442 السبت 16 ,شعبان 1435 العدد

ألبوم الوحشة

(الغُراب)

الشاعر يتمشى في البيت. الشاعر ضجر لأكثر من سبب، وقد حاول الكتابة ففشل. وتذكر أنّه حاول أن يغيّر العالم فقال له العالم: (طز). أخيراً توقّف أمام المرآة وقال سأبحث الأمر مع نفسي. نظر في المرآة فوجد ملامحه على غير العادة: لقد ضاقت عيناه بعض الشيء وضَمُرَ خدّاه. أمّا أنفه فقد تقوّس واستدقّ. حين أمعن النّظر في صورته لاحظ أن جلده أخذ يتشقّق، ثم صار يتساقط عنه كما يتساقط طلاء عن جدار قديم. غضب وهاج وصرخ: ما الذي يحدث معي أيتها المِرآة اللعينة؟

سمع ما قال فزادت دهشته، لقد اخشوشن صوته وصار صراخه شبيهاً بالزّعيق. كان جلده يتقشّر ويبرز تحته ما يشبه السّحابة المعتمة. ريش أسود طويل صار يتهدّل على جسده، فهتف بينه وبين نفسه: اللعنة!!

حرك يديه فرأى اضطراب أجنحة، ثم على حين غرّة شاهد جسده يرتفع عن الأرض ويطير.

لم يكن يعرف ما الذي حدث معه بالضّبط. كلّ ما هنالك أنّه سمع صوت زجاج يتكسّر. وهو لا يدري هل كان ذلك بفعل ارتطام جسده بالمِرآة، أم بفعل اندفاع ذلك الغراب الهائل من أعماقها، وتخلّصه من شُبهة الصّورة؟

(القَرين)

في تمام الساعة الرابعة من بعد ظهر ذلك اليوم الصّيفي ... اكتمل وصول الوفود. عشرات الآلاف من الشباب والشابات جاءوا من كل بقاع الأرض ليلتقوا، ويُقيموا احتفالاتهم الصّاخبة. ولكن، وعلى الرّغم من كلّ هذه الأعداد الهائلة فقد كانت الساحة الرئيسية للعاصمة الكورية قادرة على استيعابهم. جماعات بزيّها الشّعبي انتشَرَت هنا وهناك، وبدأَت بإقامة عروضها. ثمّة من كان يرقص، ثمّة من كان يُغنّي. بعض فِرَق المسرح اتّخَذَت أمكنة خاصّة لها ونصَبَت فِخاخها الغرائبيّة في الهواء الطّلق تمهيداً لاصطياد الجمهور. الكوريون ظهروا بلباسهم المميّز الذي كان مزيجاً من اللونين الأحمر والأزرق، الأمريكيّون الجنوبيون أشرعوا جيتاراتهم وانخرطوا في نوبات من العزف والغناء. بالنّسبة لي فقد كانت تلك اللحظة لحظة لذّيّة بامتياز، فلأوّل مرّة في حياتي أشتبك بهذا الحشد العظيم من الناس، ولهذا رحت أتحرّك هنا وهناك، وأرمي بجسدي في لجة الفوضى التي تتلاطم.

مثل هذه الوقائع التي أتحدّث عنها لم أكن أُخطّط لأرويها على مسامع أحد. فهي لم تكن ضرورية إلا من جانب صلتها بحكاية أخرى هي بمثابة بيت القصيد في نصّ الغرابة الذي كان يجري تدبيجه عصر ذلك اليوم.

لقد هدأَتْ الضّجة أو بالأحرى نعست، وانتشرت تلك الجماعات في أركان الساحة في محاولة منها للتّعرّف على تفاصيل المكان. كان أكثر ما شدّها هو تلك التّماثيل العملاقة ذات الملامح الحادّة والنّظرات الغريبة. من يتأمّل من؟ في الواقع لم يكن أحد ليعرف على وجه الدّقّة مَن الذي يتفرّس هيئة الآخر، النّاس أم التّماثيل! لكنّ ذلك أيضاً ولتعذروني لم يكن هو ما قصدت أن أحدّثكم عنه.

متمشّياً مع صديقتي كنت أشرح لها عن فكرة التّمثال الذي يصنعه الإنسان، وكيف أنّها تنبثق من إحساس عالٍ بالفقد. كنت أقول لها إنّ هذه المسألة من أوّلها إلى آخرها تتعلّق بنوع من التّعويض عن حالة التّلاشي التي تؤول إليها الحياة البشريّة، وفي ذلك فالتّماثيل ما هي إلا سلالة أخرى من أجل (الخلود) مثلها مثل سلالة الأبناء والأحفاد. قلت لها إنّ الصّور التي تطلع لنا في المرايا هي أشكال أخرى من التّماثيل، ولهذا السّبب ربّما كان ظهور فكرة المرآة المقدّسة عند اليابانيّين القدماء. عند هذه النّقطة من الحديث عن التّماثيل والمرايا، لاح لي من بعيد وجه أليف لرجل أعرفه، حين اقترب منّي رحت كالمذعور أتفرّس ملامحي التي يحملها، فقد كان يشبهني تماماً، ويبدو كنسخة أخرى لي. كان الرجل يجرجر قدميه بتثاقل بالطّريقة نفسها التي أمشي بها عادةً، ويتقدّم منّي مصطحباً صديقته معه. توقّف الرجل أمامي، فتبادلنا النّظرات المريبة إيّاها، وابتسمنا الابتسامات البلهاء إيّاها. مددنا أيدينا وسلّمنا على بعضنا البعض. سألني عن اسمي فقلت له (يوسف)، قال أنا (خوسيه).

كان هذا اللقاء من الغرابة إلى الحدّ الذي أحسست فيه أنّ الحكاية لا تتعدّى كون أحدنا (أنا أو هو) يتأمّل صورته في المرآة. لكنّ ذلك الحشد من الناس الذي اجتمع حولنا جعلني أغيّر هذا الاعتقاد، هذا بالإضافة إلى أنّ صديقتي وصديقته كانتا على درجة كبيرة من الاختلاف، فلو كانت الحكاية حكاية مرايا لكانت المرأتان متطابقتين في الصورة كما حدث معي ومع شبيهي أو لأقل قريني على وجه التّحديد.

(حيوان اللوحة)

منذ أن اقتنيت تلك اللوحة وعلّقتها في ذلك الركن الأثير من المكتبة وثمّة أمور في غاية الغرابة تحدث، إلى الدرجة التي فكّرت فيها مليّاً بترك البيت بشكل نهائي، والإقامة في مكان ما مِن العالم.

لقد اشتريت تلك اللوحة بمجرّد أن وقع نظري عليها، حبّ من أوّل نظرة كما يقولون استولى علَيّ، وخضّ كياني. وحتى أكون دقيقاً في كلامي فينبغي أن أعترف أنّ ذلك الإحساس لم يكن يتعلّق بالحب بقدر ما يتعلّق بشيء خفيّ من الرّعب تسلّل إلى داخلي وأسرني. يؤكّد ما أذهب إليه الآن في هذا التّحليل حديث الفنّان نفسه عن لوحاته في الكلمة المقتضبة التي ألقاها في حفل الافتتاح. لقد قال بالحرف الواحد: إنّ اللوحة التي أرسمها، (وهنا ظهر عليه بعض الارتياب)، لا تُسْلِم نفسها للمشاهد حين يقع في غرامها وإنّما هي في الواقع تفترسه، وأضاف بنوع من التّأكيد: ثمة شكل من السّم يقذفه الجمال المعربد بين يديّ المشاهد حين تقع نظرته عليه فيصعقه، ويشلّ قدرته على التّفكير.

أعود إلى اللوحة التي كانت بمثابة مستحثّة لنوع غريب من الحيوانات مرسومة بالحبر الصيني، ضربات صاعقة ومتوتّرة مقذوفة بفرشاة عريضة شكّلت ما يشبه ذلك الحيوان الذي أتحدّث عنه. كان الحيوان يقف بمنتهى الرعونة وسط اللوحة، ووراءه أكمة هائلة من الأشجار. حين كنت أطفئ الضّوء وأندس في الفراش كنت أسمع صدى همهمات غريبة يجيء من ناحية المكتبة، أحياناً أسمع صوت خطوات ثقيلة تتنقّل، أكثر من ذلك كان هناك من يعبث بالكتب، كنت أسمع بوضوح هسيس الأوراق وهي تنفتح، فهل كان الحيوان يقرأ! مع مرور الوقت لاحظت تغيّرات مهمّة أخذت تظهر على الحيوان، فثمة تهدّل ما أصاب جسده، فراؤه شديد السواد أخذ يكلح. أمّا رأسه فصار يُخيّل إليّ أنّه أصبح يتدلّى بين قائمتيه الأماميتين. في الوقت نفسه استمرّت حركاته الشّرّيرة، وهذا ما جعلني أغتاظ وأحمل اللوحة إلى غرفة المخزن الأرضيّة، وأغلق الباب عليها مدّة ستّة شهور كاملة.

قبل أيّام هاتفني أحد الأصدقاء وقال لي ما هي أخبار حيوانك؟ فقرّرت على الفور أن أهبط إلى المخزن لأتفقّد أحوال ذلك الحيوان الغريب. أشعلت الضوء والتفتّ مباشرة إلى اللوحة فلم أعثر على الحيوان. كان كلّ ما ظلّ منه هو آثار تلك الخبطات الغائرة في الأرض. كان الذي زاد من حيرتي هو بقاء الأشجار في خلفية المشهد كما هي، هذا إلى جانب لطخات من الخضرة أخذت تظهر هنا وهناك بين الأغصان. بكامل الدهشة انسحبت من المكان، وأنا أفكّر بألاعيب الفنّان وتحوّلات لوحته الماكرة.

يوسف عبد العزيز - فلسطين Yousef_7aifa@yahoo.com