Saturday 14/06/2014 Issue 442 السبت 16 ,شعبان 1435 العدد

سطوة المصطلح

المنطق 2

جرى الحديث في الحلقة السابقة عن منشأ فكرة المنطق عبر التاريخ وخاصة في زمن سقراط ثم أفلاطون ثم أرسطو وما رافق ذلك من تطورات لمفهوم المنطق الذي تحول على يد أرسطو إلى علم قائم بذاته, ولأنه ربط كل المفاهيم الفلسفية بالواقع سمي أرسطو من الفلاسفة المعاصرين واللاحقين المعلم الأول.

لم يقف علم المنطق عند تعاليم أرسطو, إنما استكمل شرحا وإضافة على يد الفلاسفة تباعا وخاصة المسلمين.

يقول الفارابي (950-874م) في شرحه لمقولات أرسطو ((الألفاظ: مفردة تدل على معان مفردة مثل زيد وعمرو ومركبة تدل على معان مفردة مثل عبد شمس وأداة تدل على معنى مفرد, وهي ألفاظ لا يمكن أن تكون مفهومة إلا إذا قرنت باسم أو كلمة مثل من وعلى وما شابه, واشترط في حد الكلمة أن تكون دالة على الزمان, أي عندما تقول الإنسان, الحيوان ...إلخ لا ينجر في الذهن زمان والكلمة لا يمكن أن تفارق الزمان ...والأسماء المقرونة بالزمان كالعدو والمشي فهي وإن كانت غير مفارقة للزمان ببنيتها ولكن يلزم الزمان عند وجودها على أنه غير محصل, كما أن القيام والقعود لا يوجدان إلا في الإنسان والحيوان فليست هذه الألفاظ بأشكالها دالة على الإنسان والحيوان)) (ألفارابي كتاب المنطق)

هذا الشرح الرائع للفارابي في التفريق بين المفهوم المطلق الذي لا يوجد إلا في الذهن كالإنسان المجرد أو الحيوان أو القيام أو القعود...إلخ والمفهوم النسبي المرتبط بالزمان والمكان والحركة, أي بالواقع الموضوعي الدال على الفعل الاجتماعي كأن تقول مثلا (سرق زيد بقرة عمرو) فإن هذا المعنى يختلف كليا عن (السرقة منافية للأخلاق) فالسرقة الأولى لها زمان ومكان ومساحة من القانون والحقوق والارتباط الاجتماعي, بينما الثانية خارج الزمان والمكان وبالتالي لا توجد إلا في الوعي, أي أن الفارابي اشترط -كي تكون الكلمة منطقية- أن ترتبط بالواقع, ولم يكن ذلك اكتشافا وحسب, إنما تعميقا لمنطق أرسطو وإضافة فتحت الآفاق لاكتشافات وإبداعات مقبلة لذلك سمي الفارابي المعلم الثاني.

تلقف ابن رشد (1198-1126م) موضوعات أرسطو في المنطق وشروح الفارابي وتوسع في الشرح والإضافة, ولكنه عاش في زمن كان فيه الصراع على السلطة والصراع الفكري محتدما بين المسلمين, وخاصة بين التيار المعتزلي الذي نادى برفع شأن العقل والتعامل مع الواقع وليس النص المفرغ من سياقه ومعناه, والتيار الجبري, الذي تطرف روحيا وسياسيا ونسب كل الظواهر للقدر بما في ذلك سلوك (الظالم) وبالتالي فهو -أي الظالم- ليس مسئولا عن تصرفاته والفقير (المظلوم) فلا تتحدث الجبرية عنه إلا من بعيد, فهو يجب أن يقبل بقدره وأن سرق حتى لو كان ذلك سدا لجوعه فهو مخالف للشرع.

شن ابن رشد حربا شعواء ضد الجبرية وخاصة الغزالي (1111-1058 م) الذي ألف كتاب (تهافت الفلاسفة) حيث انتقد وكفر معظم الفلاسفة وخاصة الفيلسوف العظيم ابن سينا, فرد عليه ابن رشد بكتاب (تهافت التهافت) تماما كما حصل لاحقا في أوروبا, حيث ألف أحد الفلاسفة كتاب (فلسفة البؤس) فرد عليه آخر بكتاب (بؤس الفلسفة).

لقد انتفض ابن رشد فكريا وحطم تقديس النص إلى درجة فصله عن الواقع وكأنه أيقونة أو وثن وأكد أن استخدام العقل ليس حقا وحسب, بل هو واجب شرعي مستشهدا بالقرآن الكريم:

{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}

{أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}

{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ}

{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}

وقد انكر ابن رشد على المعتزلة أقلالهم لقدسية القرآن الكريم ولكنه انتهج مذهبهم في التعامل مع الواقع على أساس التجربة فهو يقول : ((يجب أن نأخذ الحقائق حتى لو كان قائلها من ملة غير ملتنا (يقصد أرسطو وغيره) وأن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع وأن الفرد لا يستطيع الحصول على العلم وحده ويجب أن نستفيد من بعضنا البعض ومن السابقين....شرعا النظر في القضايا (العلوم) واجب بشرط أن يتوفر في من ينظر أمران: ذكاء الفطرة (يقصد التفكير السليم) والعدالة الشرعية والفضيلة الخلقية)) (يقصد أن يكون التفكير مستندا إلى قواعد أخلاقية غير منحازة) (انظر مدونة الوراق- تعليق على ملخص أفكار ابن رشد)

بهذا الاستعراض الرائع يكتشف ابن رشد أن المنطق هو منهج فكري يستند إلى التحصيل العلمي والأدبي السابق والواقع الحالي ويساير المحصلة التطورية للمجتمع وهو ليس ثابتا إنما في حركة معرفية مستمرة لا تتوقف وهو - وهذا هو الأهم- واجب وليس اختياريا ولا حياديا إنما يمكن أن يخدم الظالم أو المظلوم.

لا يتسع المجال لتناول تطور مفهوم المنطق عند المسلمين من الفارابي إلى ابن رشد وفي أوروبا من أرسطو إلى هيجل, ولكن اختيار عينات رئيسية قد يعطي لمحة سريعة عن تاريخ المنطق.

بالأخذ بعين الاعتبار أن الكنيسة كانت مركز التعليم والفكر كما هي المدرسة في الإسلام, فقد فرضت عدم المساس بمنطق أرسطو وجعلته مقدسا ولا يجوز مناقشته (عبادة النص) ولا تطويره (أي تركه يموت) فجاء عصر النهضة ليفصل الكنائس عن الحركة الفكرية ويستعيد زخم العملية المعرفية وذلك للأسباب التالية:

1- هزيمة الغرب في الحروب الصليبية جعلهم يعيدون النظر في مسيرتهم الحضارية ويدرسون أسباب تقدم المسلمين, فوصلوا إلى نتيجة مفادها: أن الحرية الفكرية والسياسية حاجة ماسة لأي تقدم.

2- المنهج العلمي هو أساس النهضة كلها

3- نزوح المفكرين من القسطنطينية بعد سقوطها في أيدي المسلمين إلى أوروبا مهد لعصر النهضة. (انظر محمد تقي المدرسي -موقع face book )

يعتبر ديكارت (1650-1596م) وريث الفكر المثالي الأفلاطوني في عصر النهضة, كيف لا وهو صاحب المقولة الشهيرة (أنا أفكر إذن أنا موجود) أي أنه يعتبر الفكرة أو الفكر أساس كل شيء, ولأنه عالم رياضيات بالدرجة الأولى حاول تطبيق المبدأ الرياضي, الذي يعتمد البرهان وسيلة لإثبات النظرية أو الوصول للحقيقة, على الفكر والذي سمي (المنطق الرياضي) وتبنته الكثير من المدارس الفلسفية والعلوم التطبيقية كمنهج للبحث والاستقصاء, وبالرغم من صعوبة إعطاء المفاهيم أرقاما مجردة وفشل ذلك المنهج إلا أن ديكارت كنموذج لعصر النهضة بين بهذه الطريقة أن (المنهج) العلمي ضرورة للعملية المعرفية وأن البرهان ليس اختياريا.

الشرخ العميق بين مذهب ديكارت كفيلسوف مثالي ومنطقه الرياضي جعل من مقولاته في المنطق أشبه بالنصائح, يقول ديكارت: ((من أجل التفكير السليم يجب أولا- الاستقلال الفكري الذي يتضمن التالي:

1- حضور العلم عند النفس, أي أن معرفة الإنسان يجب أن تكون مباشرة كرؤية العين للأشياء (يقصد ديكارت هنا ما تستقبله أجهزة الحس لكل فرد بذاته وليس ما يراه الآخرون)

2- رفض التسرع في الحكم

3- ضرورة التخلص من أفكار القدماء لأن الاقتناع بها نابع من الحب الأعمى لهم (هنا يشير ديكارت إلى فصل النشاط العلمي عن الكنيسة والابتعاد عن تقديس مقولات أرسطو أو غيره)

4- أن يكون الوجدان هو الحكم على الأشياء (هنا ينادي بالمعايير الأخلاقية) ثانيا- تحليل الأشياء إلى أكبر قدر من التبسيط (مبدأ التحليل أصبح من أساسيات علم المنطق) ثالثا- قد يفقد الإنسان القدرة على ربط الأجزاء بعضها ببعض بسبب التحليل من الأبسط إلى الأبسط (يوجد عدم ثقة لدى ديكارت في هذه المقولة بالمنهج المتبع) (انظر محمد تقي المدرسي- تطور المنطق)

مثالية ديكارت فصلته عن الواقع وشلت توجهه العلمي وأوقفته عند المرحلة الأولى لعملية المعرفة أي الملاحظة لذلك شك حتى بالبديهيات التي توفرت في عصره ولكنه ساهم في تطوير علم المنطق.

عادل العلي - الرياض Al.adel1953@gmail.com