Saturday 14/06/2014 Issue 442 السبت 16 ,شعبان 1435 العدد

صور قديمة من قرية نجدية

توطئة لسيرة ذاتية (2-2)

لم يكن في القرية متعلمون ، ولا مَنْ يحسن الكتابة، إمام مسجد القرية كان يكتب كتابة مقروءة. كان بعضهم يقرأ القرآن نظراً من المصحف، ويحفظ بعض السور، تعلموا قراءة القرآن على الطريقة القديمة في مدرسة أحمد الصانع في بلدة المجمعة، وكذلك كانت قراءة والدي ورجال القرية وبعض نسائها. كان قليل من نساء القرية يجدن قراءة القرآن من المصحف، ومنهن زوجة عمي عبد الله أكبر أعمامي كنت أراها تقرأ في مصحف كبير أوراقه صفراء.

لم يكن في القرية أقلام حديثة ولا ورق؛ ولا مما يعين على الكتابة، كانوا يكتبون على اللوح، وهو قطعة مستطيلة من الخشب ملساء، ووسيلة الكتابة عود من الشجر قد يكون من الأثل، بري أحد طرفيه فأصبح دقيقاً، كمنقار الحمامة يغمسه المتعلم في إناء صغير يوضع فيه الحبر الأسود، ثم يكتب في اللوح، لم يعرفوا الحبر المستورد، كانوا يعدون الحبر بالطريقة المعروفة آنذاك يجمعون السناج (السنو) من المقارص، وهو هَبَابٌ أسود يعلق بأسفل المقرصة مما يلي النار، وكانوا يبذلون جهداً في جمعه، يقوم الصغار بالطواف على بيوت القرية، ويجمعون السناج، ويكثر في القرصة ويقل بقدر إشعال النار وإعداد القرصان. وبعد جمعه يضيفون إليه مقداراً من الصمغ، ومقداراً من الماء، ثم يطبخونه على النار حتى يتحول إلى مزيج غليظ، وإذا برد المزيج صنعوه أقراصاً صغيرة مستديرة أصغر من أقراص الصبيب، ويضعونها في الشمس لتجف. وإذا أراد أحدهم حبراً أخذ قرصاً وأذابه في قليل من الماء، ووضع في الحبر قطعة قماش صغيرة تسمى في اللغة الفصيحة (الليقة)، ليسهل تحريك الحبر، وليبقى سائلاً. شهدت صغاراً أكبر مني سناً يأتون إلى منزلنا، ويدخلون الموقد، ويسلتون ما علق بأسفل المقرصة من سناج، كانت والدتي - كغيرها من نساء ذلك الوقت - تجيد إعداد القرصان، كانت إحدى الوجبات الرئيسة، ولذلك يجد طلاب السناج كمية كافية. إذا فرغ المعلم من قراءة ما كتبه في اللوح أو حفظه مسحه بمادة جيرية تسمى الطلو من الطلاء، لونه أبيض يشبه الجص. لم يكونوا يطيقون قواعد التجويد في القراءة. ويبدو أن معلمهم لم يلقنهم ذلك. كانت قراءتهم عفوية غير متكلفة، وكذلك كانت قراءة والدي ورجال القرية وبعض نسائها.

والسناج لفظة عربية فصيحة أول ما عرفتها من إحدى روايات تاريخ الإسلام، لجرجي زيدان، وعددها ثلاث وعشرون رواية قرأتها كلها يوم كنت مدرساً في معهد الأحساء العلمي، وقرأتها معي جميعها أم رياض قبل أن تكنى بهذه الكنية. وبعد قراءتها كتبت عنها مقالة نقدية نشرتها في مجلة معهد الأحساء العلمي، ويبدو أن المقالة أعجبت الأستاذ عثمان الصالح فبعث إلي رسالة ثناء وشكر على المقالة وضاعت الرسالة وضاعت المقالة بضياع المجلة، وربما يكون العدد في مكتبة المعهد. ومما قرأناه آنذاك ثلاثية نجيب محفوظ، بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية، وكانت هذه نهاية غرامي بقراءة الروايات والقصص المؤلفة والمترجمة إلا ما قل، إذ أدركت أن الفائدة العلمية منها قليلة، أو لا تذكر، فقراءة صفحة من البيان والتبيين أو العقد أفضل من قراءة قصة معاصرة، ولاسيما القصص التي تكتب هذه الأيام.

في عملية الختان أجلسوني على قاعدة (قفا) قدر نحاسي كبير يجلب فيه الماء من لزا (حوض) بئر تسمى أم فرغين، ثم أجرى المُحسِّن (الحلاق) الختان. كان عمله سريعاً دقيقاً، ولكنه كان مؤلماً، حيث لا تخدير. واللزا من الألفاظ العربية التي أهملتها معجمات اللغة العربية، وهي مشتقة من لزأ الإناء ولزأ الحوض إذا ملأهما بالماء، ولزأ القَربةَ ملأها، ومنه المثل الشعبي الذي أراه عربياً: لز ضلعك، أي أشرب من الماء حتى يلز أضلاعَكَ بعضها ببعض.

أصبت بمرض الجدري وعمري نحو ثلاث سنوات أو أربع، كانت وطأته شديدة على جسم صغير نحيل، لم يكن هناك علاج، وكدت أن أصاب بالعمى، كانت الرؤية أثناء إصابتي به ضعيفة، وخلف ندوباً يسيرة في وجهي، وحولاً في عيني اليسرى أضعف نظرها بقدر كبير، لا أستطيع بها القراءة وحدها إلا بصعوبة بالغة.

كان يلم بي مرض في عينيَّ كل عام، يزورني في وقت واحد من كل عام لا يريم عنه، وإذا نزل لم يُجْدِ معه علاج، ورأيت في منامي أحد الأشخاص الذي أعرفه باسمه وشخصه، فهو من القرية، ولم أرتح لرؤيته، فأخبرت والدتي حينما استيقظت فاستؤثر لي منه، فشفيت عيناي، ولم يعد إليهما مرضهما الموسمي.

كان نمط التعليم في مفهوم رجال القرية مرتبطاً بما تعلموه في مدرسة أحمد الصانع، تعلم مبادئ القراءة والكتابة على طريقة الكتاتيب القديمة، ثم تعلم قراءة القرآن الكريم ابتداءً من جزء عم. كانوا يبدؤون بقصار السور في نهاية الجزء، ثم يتدرجون في التعلم والقراءة نظراً حتى ينهوا قراءة القرآن. وانطلاقاً من هذا المفهوم رغب الآباء إلى إمام المسجد أن يعلمنا القراءة والكتابة. لم يكن من أهل القرية، قدم إليها من إحدى القرى القريبة، بعد أن انتقل الإمام السابق إلى المجمعة، وكان خلفاً لآباء وأجداد توارثوا إمامة مسجد القرية منذ أن كان اسمها القديم القلعة. كان عمري آنذاك خمس سنوات. انضم إلى الحلقة عدد من لداتي، ما زلت أعرف الأماكن التي كنا نتعلم فيها؛ في الصيف يختار لنا الأماكن الظليلة، وفي الشتاء يختار لنا الأماكن المشمسة، وكنا نفترش الأرض دون وقاء، ولم يكن لدينا أوراق ولا أقلام، كان يعلمنا بخط الحروف على الأرض، ولا زلت أذكر رسم الحروف على الرمل، ورأيت معه قلماً من البوص تمنيت أن يكون لي مثله، كانت ريشته جميلة دقيقة. كنا نسمع عن السبورة عرفناها من تلاميذ يكبروننا سناً التحقوا بمدرسة الحكومة في المجمعة التي عرفنا فيما بعد حين التحقنا بها أنها المدرسة السعودية الأولى التي افتتحت عام 1356هـ، وكنا نتمنى أن تكون لنا واحدة يدربنا معلمنا على القراءة والكتابة بها. أبدى لنا مرة أنه سيشتري لنا سبورة ففرحنا بذلك، وطلب من كل تلميذ في الحلقة أن يتبرع بريال عربي لشراء السبورة وأسرعنا جميعاً بتلبية ما طلب، وانتظرنا مجيء السبورة يوماً بعد يوم، وسمعنا مرة صوت ارتطام خشب في منزل معلمنا بجوار المسجد، فتباشرنا وفرحنا، وقلنا: إنها السبورة أتت، ولكنها لم تأت أبداً. كان معلمنا حازماً شديداً، ولا يسمح لأي طفل مهما حاصره البول أن يغادر الحلقة ساعة الدرس، وتصوروا ماذا يحدث لهؤلاء الأطفال الصغار. كانت تجربة في التعليم غير مجدية لضعف الإمكانات والوسائل. لم يكن لإمام المسجد راتب ولا وظيفة ، كان يعتمد على ما ينفحه الأهالي من التمر والعيش، وما يحصل عليه من تعليم الأطفال، وكثيراً ما كان يطلب مني أن أحضر له الشاي والسكر من منزلنا، كان صديقاً لوالدي، وامتدت صداقتهما حتى توفي قبل والدي بسنوات ، رحمهما الله.

مرة حضر إلى القرية بدوي متطيب في نحو الستين من عمره، عيناه تتوقدان خديعة وكذباً ومكرا، لا أدري من أي بلاد لفظته، ولا من أي جهة سقط على القرية فأراد أن يستغل أهلها الفقراء، ويحتوش ما وفروه من دريهمات قليلة. فادعى أنه يعرف من أصيب بالسحر والصرف، ويعرف من يعالج ذلك حتى يبرأ المسحور والمصروف، فأحدث في القرية بلبلة وقلقاً بين الرجال والنساء، ففزع كل من قال له أو لها أنه مسحور أو مصروف يطلب العلاج، فبعض هم وصف له علاجاً من عنده كأحد أعمامي الذي أعطاه بعض الأبازير فرأيت شيئاً أسود لعله حب الخضيراء (حبة البركة) يدق في النجر (الهاون)، وقال عن أحد من يكبرني سناً إنه عقيم، لن يرزق بأولاد إذا تزوج، وكذب فقد تزوج هذا الشخص ورزق بأولاد، وكنت مرة جالساً في الطريق الواصل بين القرية وبلدة المجمعة فسأله عني أحد الأشخاص فيما إذا كنت أشكو من مرض، وقد فرغت توّاً من اللعب، فأمسك بي وقال: هذا يابسة مصارينه من اللعب. ولم يزد.

وهذا المدعي الأفاك لم يقتصر على وصف العلاج، بل قال لأشخاص إن الصرف الذي أصيبوا به شديد، علاجه في الرياض، تقوم به نسوة بدويات، ومن هؤلاء الأشخاص والدتي وشقيقتها، وامرأة أخرى، وأضاف أنه لابد من صب الرصاص على رؤسهن عدة مرات حتى يشفين من المرض. صدق الجميع ما قاله لغياب الوعي وبراءة العقول وانتشار الخرافة. زرع فيهم توهم مرض لم تشهده أجسادهم، فكان الاستعداد لرحلة إلى الرياض أعدها آنذاك شاقة، وقيل لي: إنني سأصحب والدتي في هذه الرحلة؛ لأن والدي كان مشغولاً ببناء منزل لنا في المجمعة، وكان قد اشترى أرضه الواسعة بمبلغ تسعمائة ريال عربي، هذا الحدث كان عام 1372هـ/ 1952م، وعمري ثمان سنوات. لا أستطيع أن أصف الشعور الذي انتابني آنذاك، غير أنني لم أكن كارهاً للرحلة، وربما غمرني شيء من الفرح، حضرت إلى قرية الفشخاء شاحنة (لوري) جديدة لونها زيتوني، طراز 52، فرشت أرض صندوقها وجوانبها بالبواري، لم يكن الصندوق الذي ركبنا فيه كبيراً، صحبنا والدي إلى المجمعة، وتوقفت السيارة عند قصر الملك عبد العزيز (مقر إمارة المجمعة) وهو المكان الذي تقف فيه السيارات القادمة والذاهبة. كنا خمسة أشخاص والدتي، وشقيقتها، وزوجها، وامرأة أخرى، وأنا بصفتي محرماً لوالدتي، غصت السيارة بالركاب، من حضر وبدو، ومعهم سحاحير معدنية كبيرة، احتلت مساحة من صندوق السيارة، كان الطريق إلى الرياض صحراويّا، سارت السيارة، بقية النهار وشطراً كبيراً من الليل وهي ترج أجسامنا، وتميل بها من جميع الجهات. لم يغمض لي جفن طوال الرحلة بسبب زحف إحدى السحاحير، ومزاحمتها وما كانت تحدثه من أذى لظهري. توقفت السيارة بعد مضي ساعات من الرحلة لا أعرف عددها، ونزل الركاب وانقسموا فرقتين، كل فرقة أشعلت النار لإعداد القهوة والشاي، وما يتيسر من الطعام. بلغنا الرياض في اليوم الثاني من الرحلة، وسكنا – فيما قيل لي بعد ذلك – في حلة القصمان قرب البطحاء، في بيت طيني صغير، ولكنه نظيف، لم يكن فيه ماء ولا كهرباء، كنا نجلب الماء من حوض معدني كبير جداً قريب من سكننا، ويغذي الحوض بئر إرتوازي، وللرافعة صوت أرتاح لسماعه وهي ترفع الماء من البئر وتصبه في الحوض، ورأيت أسراباً من النساء يغرفن الماء في قدورهن الكبيرة، ويذهبن به إلى منازلهن، والحوض لا يمتلئ لكثرة الواردات عليه. لم تكن في الرياض شبكة مياه آنذاك، والشوارع كانت ترابية لم أشهد طريقاً مزفتاً، وعجبت من كثرة السارات، ولا سيما سيارات الركوب التي كانت تمرق في الشوارع خفيفة سريعة، ورأيت لأول مرة الدراجة الهوائية (حصان إبليس) وكان من نوع التك.

بدأت والدتي وزميلتيها رحلة العلاج إلى بيت المعالجة، وكنت أذهب معهن عبر مسافة ليست قصيرة، وهي بدوية اختارت سكنى المدر بدلاً من الوبر، كانت تلبس برقعاً، لم نشاهد وجهها قط، فالبدويات آنذاك لا يكشفن وجوههن حتى للنساء، شرعتْ في صب الرصاص المذاب على الرؤوس ، تضع على الرأس ما يقيه من شدة الحرارة، ثم تضع إناء على الرأس تفرغ فيه الرصاص، هكذا بدا لي. استمرت المعالجة أياماً لا أعرف عددها مما جعلني أسأم في أحد الأيام وأطلب من والدتي مغادرة المكان، وقلت بمسمع من المعالجة: أنا لا أحب البدو، وقابلت قولي بامتعاض واستياء عوض أن تقابله بلطف ورحابة صدر. كنت أتجول وحدي خارج البيت قريباً منه، ويمتد بي التجوال أحياناً إلى مسافة أبعد، ومرة وجدت نفسي في سوق تعرض فيه البضائع مكدسة على الأرض وحولها الباعة والمشترون، وأعداد من سيارات الشحن واقفة، لم أعرف وقتذاك أن هذا هو سوق البطحاء. أمام مسكننا مساحة كبيرة تقف فيها سيارات الشحن وكنت أرى السائقين يشغلون سياراتهم بالهندل (مشغل السيارة اليدوي) بدلاً من السلف، ويزودون عجلات السيارات بالهواء بآلة الدفع اليدوية (مضخة الهواء). لم يتح لنا التجوال في الرياض ولا مغادرة المنطقة التي أقمنا فيها مدة العلاج. أما رحلة العودة فلا أذكر شيئاً من أحداثها، فهي صفحة طمست من الذاكرة، وما أكثر صفحات الزمن التي طويت فلم يعد لها ذكر ولا وجود!

أ.د. حمد بن ناصر الدخيِّل - الرياض