Saturday 15/02/2014 Issue 428 السبت 15 ,ربيع الثاني 1435 العدد
15/02/2014

ليست الطرق كلها تؤدي إلى (روما) (3)

كانت الأيام الخمسة الأولى من نصيب الشمال الإيطالي، حيث كانت (ديسنسانو ديل جاردا) و(سيرموني) و(فيرونا) و(فينيسيا) و(ميلان) المدن الخمس التي اقتضت خطة الرحلة زيارتها والتعرف على طبيعتها ومعالمها وثقافتها وتاريخها وأبرز خصوصياتها، ومع طلوع فجر اليوم السادس كنا على استعداد لشد الرحال وتوديع قريتنا البديعة (ديسنسانو) التي قضينا فيها أمتع الأوقات لننطلق إلى الجنوب، قاصدين العاصمة الإيطالية الشهيرة (روما)، كانت الخطة تقتضي المكوث فيها بقية أيام الرحلة الأربعة.

كنتُ أعي تماماً طول الطريق، فهو يقارب مسيرة 6 ساعات، لذا عزمنا على الانطلاق مبكراً مع ساعات الصباح الأولى كي نتمكن من الوصول إلى (روما) قبل حلول الظلام؛ لأنَّ الطريق لن يكون إليها مباشرة، حيث كانت النية تتجه لزيارة مدينة مهمة لم نشأ أن نفوتها، خاصَّةً أنها تقع في طريقنا إلى العاصمة، وهي مدينة (فلورانس) الشهيرة التي سيأتي الحديث عنها لاحقا.

كنتُ أظنُّ أنَّ طول الطريق هو الصعوبة الوحيدة التي ستواجهنا، غير أنني اكتشفتُ فيما بعد أنَّ هذه الصعوبة سهلةٌ في مقابل الصعوبات الثلاث التي واجهناها، أما أولها فهو الانحاءات والتعرُّجات الشديدة التي يتميز بها الطريق، حيث يتطلَّب من السائق تركيزاً منقطع النظير طوال فترة القيادة، خصوصاً مع وجود الشاحنات التجارية الضخمة التي يمتلئ بها الطريق قاصدةً العاصمة، وضيق الطريق الذي يتحوَّل في كثيرٍ من الأحيان إلى مسارين، أما ثانيها فهي أنَّ أغلب الطريق كان صعوداً ونزولاً ودخولاً في أنفاق تحت الجبال الضخمة التي ترافقك في معظم الوقت، وتحتلُّ مساحاتٍ واسعةً من الطريق إلى (روما)، أما ثالثها فهو الضباب الذي يغطي فضاء الطريق، ويحجب الرؤية بشكل شبه كامل، حيث لا يمكن للسائق أن يرى أمامه سوى10 أمتار بوضوح، ولا شكَّ أنَّ هذه الصعوبات تتطلَّب من السائق الانتباه بشكلٍ دائمٍ ومستمر، وتضعه تحت ضغط شديد، خاصَّةً إذا كان يقود في الطريق لأول مرة، ولا يعرف شيئاً عن أية منعطفات أو مخارج قد يواجهها، ويحتاج إلى مشاهدة اللوحات الإرشادية لمزيد تأكُّدٍ من صحة الطريق، فالتقنية قد تخون أحيانا!

كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا حين وصلنا إلى (فلورانس)، لم أكن أعلم أنَّ الإيطاليين يسمونها (فينزي)، ولم تكن اللوحات تشير إلا إلى هذا الأخير، غير أنَّ (قوقل) يؤكد لنا مراراً أنَّ هذه هي (فلورانس)، وكالعادة أوقفنا السيارة في وسط المدينة وبدأنا رحلة الاكتشاف.

كانت المدينة هادئةً إلى حدٍّ كبير؛ ربما لأننا دخلناها صباحا، لاحظتُ بعد دقائق من المشي لوحةً لمحلِّ جزارة مكتوبة بالعربية، فتوجَّهنا مباشرةً إلى صاحبه العربي الذي أكَّد لنا أنَّ هذه المدينة هي (فلورانس) الشهيرة، غير أنَّ الإيطاليين وحدهم يطلقون عليها اسم (firenze)، أولى الزيارات كانت إلى محترفٍ خاصٍّ بالنحت على الصخور لأحد أشهر الفنانين الإيطاليين توارثته عائلته بعده عقوداً طويلة، كانت المجسمات الصخرية والتماثيل في ذلك المحل في غاية الدقة والجمال، وتحكي فصولاً متناثرة لتاريخٍ عريق تفتخر به هذه المدينة، كنتُ قد حرصتُ على قراءة شيءٍ منه قبل زيارتها، علمتُ أنَّ (فلورانس) كانت عاصمةً لإيطاليا بعد توحيدها من عام 1865م حتى عام 1871م، كما كانت كذلك لفترة طويلة أيام حكم أسرة ميديشي التي كانت على ثلاث فترات، (1434م-1494م)، (1512م-1527م)، (1530م-1737م)؛ ولهذا كانت هذه المدينة في أوروبا العصور الوسطى مركزاً هامَّاً من الناحية الثقافية والتجارية والمالية.

وحين تجوَّلنا في أنحائها وأبصرتُ مبانيها وكنائسها الضخمة وتماثيلها المتناثرة ومتاحفها الوفيرة علمتُ لماذا عُدَّت هذه المدينة منشأ عصر النهضة، حتى اُشتهرت في العالم بأسره بوصفها مهداً للفن والعمارة بمبانيها التاريخية العديدة ومعالمها ومتاحفها الغنية، حيث عُرفت بوصفها واحدةً من أجمل وأهمِّ مدن العالم، بل إنها سميت (أثينا العصور الوسطى).

وإذا كانت المدينة بهذا الغنى التاريخي والثراء الفني فلا يمكن للوقت أن يسعف السائح ليزور ولو جزءاً يسيراً من معالم تحتضنها (فلورانس)، فكيف بمن لم ينوِ المكوث فيها سوى سويعات قليلة؛ لذا كان لا بُدَّ من التوجُّه إلى وسط المدينة للتعرُّف والاطلاع على شيءٍ من تراثها الماضي العريق.

كانت (فلورانس) تتميز عن بقية المدن الأخرى بكثرة ساحاتها، فهناك (ساحة السيادة) وهي الساحة المركزية فيها ومقر القوة المدنية بوجود (القصر القديم) وقلب الحياة الاجتماعية في المدينة، وهي الساحة الوحيدة في العالم التي تضم مجموعةً فريدةً من أهمِّ الأعمال المنحوتة التي تحمل رسائل سياسية عليها أن تلهم حكام المدينة، كما زرنا ساحة (الكاتدرائية) وهي واحدةٌ من أشهر المعالم المركبة في إيطاليا بوجود (الكاتدرائية الكبرى) و(جرس جوتو) و(بيت المعمودية)، ومررنا بساحة (الجمهورية) وهي ساحة على طراز القرن التاسع عشر على شكل مستطيل، تشكل للسياح الخيار الأفضل للإقامة الجيدة في المدينة بوجود المقاهي الكبيرة وبعض الفنادق المترفة، كما تعد منطقة للمشاة وتشكل نقطة ارتكاز في المنطقة السياحية التجارية وسط المدينة، وكان لابُدَّ لنا من زيارة ساحة (سانتا كروشي) التي تقع فيها الكنيسة المسماة باسمها، وهي كبيرة المساحة ومستطيلة الشكل، كانت خلال عصر النهضة المكان المثالي لمسابقات الفروسية والمهرجانات والعروض والمباريات الجماهيرية كلعبة كرة القدم القديمة التي مازلت تقام حتى الآن في شهر يونيو من كل عام، وأخيراً خُتمت الجولة بزيارة ساحة (القديسة أنونسياتا) التي تعد أحد أجمل الساحات وأكثرها انسجاما من ناحية التصميم، ليس في (فلورنس) فقط بل في إيطاليا كلها، ولعلها النموذج الأوروبي الأول في التخطيط المدني.

وحين انتصف النهار كان لابُدَّ لنا من توديع هذه المدينة الاستثنائية لنواصل المسير إلى العاصمة (روما) التي وصلناها مع غروب الشمس، وما إن دخلناها حتى شعرنا بالاختلاف الكبير بينها وبين بقية المدن، كان الزحام والضجيج على أشدهما، كان الفندق الذي اخترناه يقع في طرف المدينة إلى الشمال؛ لذا لم يستغرقنا وقتٌ طويلٌ حتى وصلناه، كان التعب قد بلغ بنا مبلغه، حيث كنا قد خرجنا من (ديسنسانو) فجرا، وكان أمامنا طريقٌ طويلٌ تجاوز 6 ساعات، إضافة إلى تجولنا في (فلورانس) مدة 4 ساعات، وهنا أصدر سلطان النوم حكمه الصارم علينا فور وصولنا لنبدأ غدا جولات جديدة في العاصمة الإيطالية (روما)، ونكتشف ما تخبئه لنا هذه المدينة الشهيرة خلال 4 أيام هي كل ما بقي لنا من هذه الرحلة الاستثنائية.

- الرياض omar1401@gmail.com