Saturday 15/11/2014 Issue 451 السبت 22 ,محرم 1436 العدد
15/11/2014

القصيدة المعاصرة في الخليج والمتغيرات (1-3)

لا تشبه المتغيرات التي طرأت على العالم في العصر الحديث أي متغيرات في حياة الناس قبل العصر الحديث؛ ولذلك يمكن أن نذهب بالثقافة في الخليج بما فيها أشكال الفنون وأساليب المعيشة والاجتماع، من نقطة التغير والاستحالة إلى الزمن الحديث، إلى أزمان قديمة من غير أن نلحظ تغيراً جوهرياً وحاسماً على النحو الذي طرأ عليها وعلى الحياة في جوانبها المختلفة حديثاً. السَّانية التي تنزح الماء من البئر، والثور أو الجمل الذي يجر المحراث، واجتماع القبيلة خلف شيخها... الخ أمثلة لحياة لم تعرف من الخض والقلقلة والقفز في الزمن ما آل إليه بها زمن المضخة الآلية لاستخراج الماء، وماكينات الحرث والحصاد، والكهرباء التي أحالت ليالي المدن إلى نهارات ساطعة، ووسائل المواصلات والاتصالات المختلفة. هنا أخذ الزمان كما أخذ المكان علاقة مختلفة مع الإنسان: السرعة والآلية هما القطبان البديلان لزمن بطيء ومتمهل ولعلاقة إنسانية مباشرة بالعمل والإنتاج.

ولا نستطيع أن نفهم الدلالة الحديثة للزمن العربي، بذلك فحسب، بل بتطور حاسم على مستوى الوجود الاجتماعي، حيث بروز مفهوم الدولة القطرية إلى جانب المفهوم القومي. وهذان مفهومان تشكلت بهما هوية مشدودة إلى جدِّتهما في العالم العربي وفي الخليج على نحو خاص، بدلاً من تقليدية الهوية القبلية والعشائرية وتضييقها على بروز كينونة الفرد، وبدلاً من ضعف مفهوم الدولة واهترائه وقلق الهوية المرتبطة به في المناطق التي خضعت لنفوذ العثمانيين. ومع بروز الهوية بالمعنى الوطني والقومي في وقائع ثورية سياسية لم تنفصم عن الاقتصادية، تهيأت السبيل لنمو الشخصية الفردية، وتأكدت قيمة الطبقة الوسطى، في النهوض بالمجتمع.

لكن التغير الثقافي المترتب على تلك المتغيرات التاريخية الاجتماعية والتقنية والمتحاور معها، ترتب –بإزاء ذلك- على حدثين كبيرين، يتصل أولهما بالأحداث والتطورات السياسية العربية التي لا تنفصل عن إثرها المجتمعات الخليجية، فكان النضال العربي ضد الاستعمار الذي كان مُطْبِقاً على كثير من الدول العربية ولم تسلم من تسلُّطه بعض دول الخليج، وهو نضال كان ينتهي بجلاء المستعمر وتعزز الهوية الوطنية والقومية وفي معظم الدول العربية خصوصاً ما يحف بدول الخليج منها أو يقترب كان صعود أشكال من الدول والحكومات العسكرية العربية بدعاوى ثورية تقدمية وقومية وجماهيرية. وإلى ذلك بقيت فلسطين جرحاً تتوالى الخيبات العربية أمامه، خارج كل انتصارات التحرر، إلى أن صار الجنوح إلى توقيع اتفاقيات السلام ومعاضدتها. وهي صيرورة اقترنت زمنياً بحدوث الثورة الإيرانية عام 1979م التي أنتجت تهديداً للمنطقة بتصدير إيديولجيتها والتصادم على تعارض المصالح. وكانت المشاكل العربية-العربية عامل قلق شديد للمفهوم القومي وصل إلى ذروته بحادثة احتلال العراق للكويت عام 1990م، تلك الحادثة التي كشفت عن ضآلة التصور القومي العربي في التصاقه بأسطورة القائد البطل المفرد، وأخذت فكرة البطولة بهذا المعنى الدكتاتوري تذوي وتتضاءل.

ويتصل الثاني بظهور النفط في دول الخليج وهو الحدث الذي صاغ الحياة فيها في أكثر من مستوى، بشكل نقلات سريعة وقفزات عاجلة كان التعليم والنشر والمكتبات والاتصال بالعالم العربي والأجنبي أقوى مفاعيلها الثقافية، وكانت الهوة النفسية التي أحدثها التحول المالي المفاجئ والتغير الاجتماعي المتسارع، تجربة نوعية لا تستطيع تمثيلها واكتشافها خبرات أدبية موكولة للذاكرة أو مرتهنة خارج الحس بالتحول ورؤية مفاعيله التي اختمر بها حس أدبي مفارق بأكثر من معنى. وقد أسهم حدث النفط في جذب دول الخليج إلى بعضها بعضاً، خصوصاً في ضوء تطور الأحداث من حول المنطقة. ولم يكن إنشاء مجلس التعاون الخليجي الذي يجمع دول الخليج الست عام 1981م رد فعل فقط على التطورات الثورية التي تحف بالمنطقة، بل كان –أيضاً- استجابة للتقارب والتلاقي الذي يجمع دول الخليج في وجوه شبه سياسية واجتماعية عديدة، ويوحد هويتها ضمن الهوية العربية ولكن –أيضاً- في قبالة مراكزها الثقافية الحديثة في مصر والشام والعراق والمغرب بما يعزز البحث عن أصالة إبداعية خليجية وضيق بالتقليدية والاتباعية إلى الدرجة التي أصبح الأدباء والفنانون في المجتمعات الخليجية يبحثون عما يميز مجتمعاتهم ومناطقهم ضمن الإقليم نفسه وبإزاء مجتمعاته ومناطقه (لنتذكر هنا –على سبيل المثال- دعوة محمد حسن عواد وعزيز ضياء وغيرهما في الحجاز إلى أدب حجازي، ونقدهم لاستمراء أدباء الحجاز التقليد للمصريين والشاميين، ودعوة عبد الله نور إلى أدب يمثل «ثقافة الصحراء» وهو المصطلح الذي عنون به الدكتور سعد البازعي كتابه الذي يحمل الاسم نفسه).

ونستطيع أن نقرأ في ضوء متغيرات الواقع التاريخي والاجتماعي الحديث في منطقة الخليج، متغيرات زمن أدبي خليجي تتوالى على عجل وتركض مختصرة الحقب التي تحتاجها التجارب الأدبية. فيتجاور التقليدي والرومانسي والحداثي في الجيل الواحد ولدى بعض الشعراء، ويندفع الشعراء إلى ممارسة التجريب واجتراح الجِدَّة. إنه زمن ثقافة أخذت تنمو وتتسع على مستوى وعي الفرد وعلى مستوى المجتمع، بنمو التعليم وانتشار المكتبات وتضاؤل دائرة المسافة بين المبدعين والمتلقين وانفساحها على تعدد وتنوع كان أفقُ الاتصال بالثقافات الأجنبية عن طريق الترجمة وبعثات الدراسة، رديفَ التحقيق والنشر لكتب التراث، وكان تعدد الاتجاهات الشعرية لصيق اختلاف المنابر الصحفية وتغاير النوادي والتجمعات الأدبية. ولذلك يمكن أن نلمس، هنا، ما لمسه المؤرخون والنقاد في الوعي بمصادر الإبداع ومادة تشكله في العالم الحديث، فلم يعد الشعراء يستمدون من التجربة العملية والمعايشة فقط، بل أخذوا يجاوزون ذلك إلى الاعتماد على ما توافره الثقافة لهم من مادة غزيرة متنوعة في الأفكار والأشكال والمواقف والمذاهب والمفاهيم...

وكان من أبرز ما يمكن الوقوف عليه في هذا الشأن، مفهوم المثقف بوصفه موقفاً باتجاه المستقبل، وفاعلاً للفكر والإبداع الفني والتعبير يعرَّف بالإحالة على علاقته بالسلطة. فقد كان الموقف التقليدي للمثقف في جهة الشعراء والأدباء –تحديداً- هو الاندراج في دائرة الأتْبَاع لذوي النفوذ والسلطة، دائرة التترس ضد التغيير، وتعميم نموذج الثقافة السائدة، ثقافة التكرار والاجترار والسكون. وكانت هذه الدائرة تمارس ضغطها عليه باستمرار فيفقد حريته وموقفه المستقل، ويغدو إنتاجه فاقداً –أو يكاد- للقيمة الإنسانية والعمومية للمجتمع، وبلا تمحُّض فني وجمالي؛ لأنه مأسور للقوة والنفوذ في المجتمع ومرتهن بالمعنى الاستحواذي. ولهذا كان الشعراء التقليديون في منطقة الخليج –كما هم في العالم العربي كله- يتعرفون بهذا الموقف الثقافي أكثر من أن يعرفوا بشكل شعرهم أو بموضوعاته. وهو موقف بدا قلقاً في ضوء التطور الثقافي والاجتماعي ومرشَّحاً للتزاحم مع مفاهيم أخرى لمثقف جديد يأخذ صفة رومانسية أو واقعية أو وجودية، ويمتلك سلطة ثقافية تتبادل مع المجتمع القوة، في طبقتيه الوسطى والفقيرة، أو في الفضاء العربي والإسلامي الزاخر بالمظالم والمآسي والأحداث التي تستجيش التعبير، وفي فضاء الإنسانية بالمطلق فضاء الدلالة على موقف العدالة والحرية والمجابهة للظلم والظلام. وأخذ يتبلور مفهوم المثقف بمعنى مبدئي مثالي، بحيث أصبحت صفة المثقف مرتبطة بالعقل والضمير والتنوير والحق والعدل والحرية والمساواة، وسائر المعاني التي تمثل أحلاماً طوباوية، وبدا واضحاً لدى شعراء الحداثة في منطقة الخليج دلالة المثقف بوصفه موقفاً لا جدارة له إلا باستقلاله، وهو استقلال يمنحه قدرة على الرؤية والكشف والمعرفة والنفاذ إلى مكامن المعنى والقيمة والجمال، قدرة ترفعه عن العابر والشخصي والنفعي، وتكسبه تلك القوة التي تستشرف الأكمل والأمثل فتمارس دوراً نقدياً باتجاه الواقع، على النحو الذي لم ير معه ماثيو آرنولد (1822-1888م) للأدب –وهو جوهر الفعل الثقافي- تعريفاً إلا أنه «نقد للحياة».

ونستطيع أن نلمس هذا المتغير الثقافي-الاجتماعي في منطقة الخليج، في حقل الشعر، منذ المرحلة الرومانسية، فعلى الرغم من طغيان الذاتية والجموح العاطفي لدى الشعراء الذين تجمعهم صفتها، وعلى الرغم من عدم انفكاكهم عن شعر المناسبات واتصال أسبابهم بدواعي المديح والفخر وما إليهما من المقتضيات التقليدية، فإننا نجد في شعرهم مواصفات دالة على الاعتزاز بالفردية وقوة الشعور بها، وهي فردية أطلقت ألسنتهم باتجاه مثالية تتباعد عن خيباتهم في الواقع وهزائمهم ومراراتهم المتصلة فيه، فيغدو الشعر أملاً لهم، وينفسح لمعاني إنسانية وجمالية، ويتبادلون مع المجتمع التدافع والتجافي الذي كان أحد أميز المعالم الرومانسية في الأدب العالمي والعربي. ولم يكن غريباً –والأمر كذلك- أن نجد أبرز الأسماء الشعرية الرومانسية في الخليج هي التي أطلقت صرخاتها بضرورة تحديث المجتمع، وتعليم البنات وعملهن، والتعاطف مع الفقراء، وإطلاق أسئلة العدالة والحرية والمساواة، والانفتاح على قضايا الحقوق والمآسي عربياً وعالمياً. ولن ننسى هنا –على سبيل المثال لا الحصر- أسماء محمد حسن عواد وحمزة شحاتة وسعد البواردي في السعودية، وفهد العسكر في الكويت، وإبراهيم العريض في البحرين، وعبد الله الطائي في عُمان.

- الرياض