Saturday 15/11/2014 Issue 451 السبت 22 ,محرم 1436 العدد
15/11/2014

تهافت النقاد العرب

لم يسلم العرب من كل شيء،حتى في مجال علومهم،فقد تم اختراقها هي الأخرى،إذ إن في القديم كان جلُّ المشتغلين في النقد العربي من الموالي،ولم يكن للعرب فضل في بلورة النقد الذي نراه اليوم عنهم،ولقد عقد ابن خلدون بابًا في أن غلبة حملة العلم أكثرهم من الأعاجم،ناهيك- عزيزي القارئ- عن ابتداع العلوم كما النحو على يد سيبويه،والطب على يد ابن سينا...،بل في العلوم الشرعية كما البخاري والترمذي والنووي،وغيرهم كثير.

قد يعترض معترض فيقول: حسب العرب أن القرآن نزل بلغتهم وعلى نبي عربي.

وهذا المعترض حين يقول ذلك فإنه ينطلق من المنطلق الذي يميل به إلى الإعجاز العلمي في القرآن،وكأن القرآن قد نزل ليعلم الناس مخترعات الطب والفلك وطبقات الأرض وغير ذلك،بينما القرآن لم ينزل من أجل هذا،وإنما جاء بشيرًا ونذيرًا فحسب،وما تخلله من معلومات- هي من حظ العلوم البحتة- فقد جاءت عرضًا،وليست مقصودة لذاتها،وإنما هي وسيلة وليست غاية.

إن أولئك المشتغلين في الإعجاز العلمي في القرآن يطلبون ما ليس غاية،حيث إن القرآن لم يأتِ ليعلم أهل الأدب الفن،ولا يعلم أهل الطب أمشاج العلاجات،ولا يعلم أهل الفلك والجولوجيا وأسرار الطبيعة ما يخفى عليهم،وهم حين يفعلون ذلك فإنهم يقحمون القرآن فيما ليس منه.

قد يكون هناك وجه من الإعجاز في القرآن حين ندرسه في الزمن الذي نزل به،حيث قلة العلوم،وشيوع الأمية،والافتقار إلى أمّات الكتب العلمية المتخصصة،ولكننا في زمننا هذا نجد أن القرآن كتاب وعظ وإرشاد،وهادٍ إلى اكتشاف العلوم والبحث في الكون والحياة،أي أنه يعطي المفاتيح وينادي بالبحث عن الأقفال.

حين أطل العصر الحديث على العرب،وتحديدًا منذ بدء حملة نابليون القائد الفرنسي على مصر عام 1798م،بدأ الحراك العلمي عندهم،وراح العرب ينهلون من علوم تلك القوة الغالبة تبعًا لمقولة ابن خلدون» المغلوب مولع بتقليد الغالب»،وقتذاك؛ تهافت النقاد العرب على طرح علومهم النقدية الأولى،وراحوا يترجمون وينقبون ما عند غالب اليوم،فكان النقد العربي الحديث مسخًا لتلك العلوم،وهو المسخ المشوَّه على كل حال؛ إذ إن ما كان صالحًا في علوم الغرب لم يكن يصلح للعرب،فالشعر والنثر عندهم يختلفان عندنا،فالبون شاسع،ولعل أكثر ما اشتغل عليه النقاد العرب ما كان من المناهج النقدية في فنون الأدب،حيث ظنوا أن النقد الغربي الحديث يصلح للنقد العربي الحديث توقيتًا وتوقيفًا،بينما الواقع النقدي اليوم يئن بألم،وينعى الاختلاف والاستلاب الدميم.

لعلي لا أغالي إذا قلت: إن أكبر الضرر الذي بُليت به الساحة النقدية العربية كان بدايته من النقدة المغاربة،حيث إن إتقان اللغة الفرنسية خولت كثيرًا من المشتغلين بالنقد إلى الترجمة تارة،وإلى التبعية المطلقة تارة أخرى،وهم حين أحسوا بذلك،راحوا ينادون بالأدب القطري الخاص بهم،فتهافتوا على الاقتصار على نقد نتاجهم الثقافي،كما نادى الدكتور محمد أمنصور– وغيره- بلغة قطرية ممقوتة،وأغلب الظن عندي أنهم ينحون منحى الدكتور طه حسين حين كان يرى أن الثقافة المصرية ليست بثقافة عربية،وإنما هي ثقافة البحر الأبيض المتوسط،فهي يونانية وأوروبية وفرنسية...

من المعلوم أن أول كتاب نقدي عربي نقد الرواية العربية على أسس منهجية غربية هو ما كان من اللبناني موريس أبي ناظرة،في كتابه «الألسنية والنقد الأدبي: النظرية والتطبيق»،وقد صدر الكتاب في طبعته الأولى عام 1979م،واعتمد فيه المنهج البنيوي،والمظنون أن أبا ناظرة لم يكن ليؤلف هذا الكتاب لولا إتقانه الفرنسية،فهي التبعية الفكرية ليس إلا.

إن أزمة القطرية تكمن في تقسيم العالم الإسلامي إلى عربي أولاً،وإلى إسلامي ثانيًا،وهي قسمة قد جاء بها المستشرق الغربي وعمل عليها،حيث يلح على أن يكون العالم العربي خاصة منقسمًا إلى عربي شرقي،وعربي غربي،فكان أهل المغرب لا يزالون يسيرون على هذا المنهاج حتى اليوم،وهم بذلك يريدون أن يكون المغرب العربي الأقرب إلى الغرب الأوروبي،والمشرق العربي أقرب إلى الشرق،مما يخوّل الفصل إلى إضعاف العالم الإسلامي حين يرى الأمة العربية قد انشطرت إلى شطرين.

ومن يطلع على مجموعة حوارات بين حنفي حسين ومحمد عابد الجابري،يلحظ هذا جليًّا بلا شائبة،إذ ذاك؛ يتجسد المخطط الاستشراقي،وإذ ذاك؛ يكون الأدب لا يمثل إلا هاته القسمة التي يراد منها ألا تجتمع على علوم ومعارفَ موحدة ومتماسكة.

ليت شعري،ما سبب تزاحم النقدة العرب على مناهج نقدية غربية وهم يعلمون عدم مقدرتها على تحليل النصوص العربية؟!

هل كانوا يتعمدون إفساد النقد الأدبي العربي؟ أم أن التمايز الطبقي الأكاديمي الممقوت كان هو الغاية؟!

إن المناهج النقدية كلها وبلا استثناء قائمة على الإلحاد،ولو شئت لبسطت هذا،ولكن القارئ العربي فطن ولبق،ويعلم أن موت المؤلف في البنيوية تعني التغاضي عن مصدر المؤلف حين كانت التوراة التي بين أيدينا مشوّهة،ويعلم أن جاك دريدا في دلالته اللا نهائية يعني بها أرض الميعاد اليهودية... وغير ذلك من زج الأدب عنوة في المقاصد الإلحادية تارة،وفي العبثية والفوضوية تارة أخرى،حيث يصر عتاة الغرب من المنظرين على أن يشيعوا الفوضى في النتاج الأدبي،بينما يبقون هم في رسم الصورة التي يريدون أن تحقق أهدافها.

إن الرجاء- كل الرجاء هنا- أن ينبري النقدة العرب إلى منهج عربي خالص،يمثل ميولهم وعاداتهم وتقاليدهم وخصوصيتهم تبعًا لما سطرها أدبهم،وليس بتلك القوالب الجاهزة تُنشأ المشاريع وتخط،وإنما بالابتكار والتوليد،فذاك فضل العالم على الجاهل،وذاك فضل العبقري الذي لا تمر عليه الأشياء كما تمر على غيره،فهو يقف عندها ليسبر فحواها،فيأتي بالجديد من غير تبعية،ومن غير مسخ خديج!!

- بريدة Ahmad-27-@hotmail.com