Saturday 17/05/2014 Issue 438 السبت 18 ,رجب 1435 العدد
17/05/2014

بيروت من بعد غياب

نسافر إلى مدن كثيرة، ونقيم فيها أزماناً من أعمارنا، ثم نغيب عنها طويلاً، ثم نعود إليها اشتياقاً أو متطلبات لا غنى لنا عنها طالما أن مراكبنا تشبهنا، وتترامى ما بين أمواج ورياح تشبه بعضها.. في صورة متماشية مع طبيعة الرمال المتحركة من حولنا، كالحياة وأوراقنا فيها، أو كالظروف.. فلا شيء في ذلك يستحق أن يكون مادة للكتابة، فلا هو من باب (أدب الرحلات) – لأن الطريق معتادة مألوفة – ولا هو من باب الإخبار بما يجري، فالكل بات مطلعاً على ما يجري آنياً في كل مكان..

إنما (بيروت) وحدها تستحق (الغياب) في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر،كما لم تستحقه من قبل؛ حتى حين كانت رحى الحرب الأهلية تدور وتطحن كل شيء (1975 – 1989) لا أظنها كانت تستحق الغياب بقدر ما هي الآن. وأنا أكتب الآن من بيروت، بعد انقطاعي عنها منذ منتصف 2011 أي ثلاث سنوات كاملة، وأنا الذي لم أغب عن بيروت منذ 1996 ثلاثة شهور متواصلة قبلاً.. وأشاهد بعيني الآن حجم الغياب غير المعتاد!

سأقول رأيي بصراحة: غياب السعودي عن بيروت يترك فراغاً كبيراً في كل شيء، مهما ضجت المباني والشوارع بمختلف الجنسيات يبقى (السعودي) يشكل علامة الاستقرار بوجوده أو علامة القلق بغيابه. وأنا هنا لا أقصد التواجد الرسميّ عبر القنوات والأنشطة الدبلوماسية أو الثقافية أوالبعثات التعليمية، إنما قصدتُ المواطن السعوديّ الذي يأتي لبيروت من تلقاء نفسه ومن أجل إنجاز أعماله أو مصالحه الخاصة به وحده..

أتيتُ إلى بيروت منذ عشرة أيام، لأمور تتعلق بكتبي التي تصدر من هناك، ولأمر طارئ آخر يتعلق بعلاج دوائيّ كنت أحصل عليه من مستشفى التخصصي بالرياض ولكنه انقطع مؤخراً لأسباب لا أعرفها، وحين سألتُ الأطباء والصيادلة أين سأجده؟ قالوا لي: ربما في بريطانيا أو ألمانيا. فقلتُ في نفسي: لبنان أقرب، وأنا أعرف لبنان جيداً، فبيروت الصغيرة وحدها تساوي أوروبا الكبيرة كلها ولا شيء في غيرها يتعذر وجوده فيها(!) وهكذا كان.. فلقد حصلتُ على الدواء قبل انقضاء ليلتي الأولى في بيروت مستورداً من خارج لبنان!

ومن جهة أخرى، ذهبتُ للالتقاء بأصدقاء أعزاء اشتقتُ إليهم لدرجة خفتُ معها أن يموت بعضُنا وفي نفسه انتظارٌ لرؤية بعضِنا.. ولأنّ الأيام في زيارتي هذه قليلة جداً بالقياس إلى المدد الطويلة التي اعتدتُ قضاءها في بيروت، لم أستطع تنسيقها للالتقاء إلا ببعضهم، وهم من صفوة المثقفين – وأكثرهم شعراء بطبيعة الحال - لأرى ما الذي تغيّر فيهم وفي مواقفهم (السياسية دائماً) التي كانت متحمسة للدفع بالأحداث نحو ما يجري الآن؟ فوجدتهم بالحماس نفسه، ولكن هذه المرة للعودة بالأحداث إلى ما كانت عليه قبل الآن!

المثقف اللبنانيّ يشبه المواطن اللبنانيّ العاديّ؛ لم أجد رأياً عند مثقف يختلف عن رأي سائق التاكسي. ولستُ أدري إن كان ذلك يحسب للمثقف أم لسائق التاكسي، ولكنّ ما أعرفه جيداً أنها حالة خاصة قد لا تجدها إلا في لبنان، لأن في كل مكان من العالم تجد المثقف شريكاً مع صانع الحدث ورؤيته مختلفة تماماً عن رأي المواطن العاديّ المتطلع دائماً إلى الأمان والاستقرار والكفاية من العوز والمخاطرة. عدا هنا، في لبنان، فأستطيع أن أؤكد بأنه لا يوجد صانع حدث أصلاً حتى يكون المثقف شريكاً فيه، ولا يوجد مواطن يعيش مستسلماً لقرارات دولته حتى يكون بمعزل عن كيفية صناعة الأحداث. فالكل يعرف أن مصادر أحداث لبنان تكمن خارج لبنان. والكل مقهور بذلك وعاجز عن تغييره. أمّا سبب رؤيتي بأن بيروت تستحق أن نغيب عنها في هذه الظروف، فقد كوّنه الخذلان الذي أحسستُ به شخصياً منذ سنتين تقريباً.. حين هدَّدَ أفرادُ عائلة لبنانية بغيضة، ومندوبو أحزاب لبنانية مجرمة، كلَّ سعوديّ يتواجد على أرض لبنان بالاختطاف أو القتل. ولم نرَ من الشعب اللبناني الذي يعرف محبتنا الأزلية له وتضحياتنا من أجله – أتكلم عن شعب لشعب هنا، بمنأى عن التصريحات الإعلامية الرسمية - غير (الطناش)؛ وكأن الأمر لا يعنيه، أو كأنّ خوفه ممن تعمّد إخافته أكبر من حبه لمن تعمّد محبته(!) والواقع أنني كنتُ ولا أزال وسأظل مصدوماً بذلك (اللا موقف) الذي كنتُ أتوقع عكسه من شعب يمتلك صوتاً عالياً كالشعب اللبناني – والصوت وحده كان مطلوباً - وقد صارحتُ كل من التقيته في لبنان بصدمتي فلم يزد على القول: (والله كل الحق معك).!

سأكتفي بهذا القدر الآن من الحديث خارج الإطار الثقافي الأدبي ربما – وإن كنتُ أراه في صميمه - وأختم بمقطع شعريّ أعجبني جداً، من ديوان (ويقول العاشق ليتني كنتُ سرابا) وهو آخر دواوين الصديق الشاعر اللبناني لامع الحر:

(سوف أقرأ

كلَّ ما كان لنا

أو كانَ لكْ

سوف أبكي

كلّما حدَّقتَ بي

أو كلّما ناجيتَ ليلَكْ

آهِ.. لو تعرفُ أصلي

ها هنا عانقَ أصلَكْ).

- الرياض ffnff69@hotmail.com