Saturday 17/05/2014 Issue 438 السبت 18 ,رجب 1435 العدد

سعد البواردي

استراحة داخل صومعة الفكر

17/05/2014

عبير الذكريات (2)

طاهر زمخشري - 195 صفحة - من القطع الكبير

وتأخذنا الرحلة مع شاعر الوجدان والأشجان إلى نهايتها.. أمام بريق الذكرى وقد أثار الشوق في صدره لهيباً لا يهدأ.. إنه ما برح يتساءل كلما حل به حنين الصبابة:

أترى أحيا بما في كبدي

من حنين سال فانساب وجيبا

أم ترى أنت على عهد الهوى

فأمني النفس. ألقاك قريبا

استفهامات تنقصها العلامات؟

يا حبيبا أنت يا أحلى منى

لم أجد غيرك في الحسن حبيبا

انه معزف ألحانه والملهم لأوزانه.. إنه الربيع الذي هل في الخضر الروابي فسبت أفنانه قلبه الظامي..

لطالما عودنا شاعرنا وهو يواجه المتاهات، والجراحات، والأعاصير أن يرضي باليسير.. ومن الغياب بالإياب مع القليل من حلم اللقاء.

وإلى الموعد قد طال السرى

فمتى يمسح عن وجهي الشحوبا

فمن الشوق الذي يلدغني

هتفت روحي تستدعي الطبيبا

ما زال الجرح نازفاً:

زمخشري تستهويه الوحدة. ربما لأنها وحدها المتاحة له بعد أن أعياه الدرب دون رفيق..!

وحدي أطارد بالنسيان أوهامي

والسهر يطرد من عيني أحلامي

وحدي وحولي رؤى لم تحص عدتها

خواطري، وقراطيسي وأقلامي

ومن مكارمها راح الفناء بها

وبين طياتها أطياف أعوام

نسيتها، لم أعد أهفو لرؤيتها

شفاء دائي نسياني لآلامي

هل أقول إنه نسيان المكره والمغلوب علىأمره مع شيء من كرامة وكبرياء النفس؟ ربما..!

لا أحد يلوم شاعرنا كما طلب.. فالقلب قلبه.. والحب حبه:

لا تلمني إذا نحرت رغابي

فلقد أرهق التجني صوابي

قد كتمت الوجيب بين ضلوعي

وكفائي تعلقاً بالكِذاب

ظمأ الشوق لم يعد يلهب الوجد

ويروي جوانحي بالسراب

قد قبرت الآمال من عمر نفس

الأسى عضها بظفر وناب

هكذا لخص لنا حكاية حب سرابي خادع حسبه ماء.. وإذا به ماء دون ماء. أي سراب بقيعة لا تبل ظمأ..

إيقاع الرباب اجتذبه إليه كيف لا وهي قمرية لاحت في أفقه عبر الأثير الطلق تشدو ويستجيب لها شدوا وشجوا محكوما بالعذاب:

ارقتني، ولم أقل يا عذابي

فاحتمالي عذابها لا يعاب

سألوني: تحبها؟ قلت: قلبي

لهواها مدى الحياة رباب

ليس بهراً كما يقول المعنى

فعلى الرمل لا يصح الحساب

اجمعوا النجم إن أردتم ولكن

فوق تعداده الفؤاد المذاب

لعلها تقبل الحساب لأني

أنا أدري فحبها غلاب

لا أحد قادر على جمع النجم من أجل فؤاد مذاب، وحب غلاب.. أما الحساب فقصة عتاب بين شاعرنا وطيفه الجميل له خصوصيته دون تدخل.. الشعراء دائما يقيمون المعارك الوجدانية ويطلبون من غيرهم إطفاء نيرانها بعد أن يصيبهم العجز.

حبل الانتظار عنوان جديد.. ماذا يحمل؟!

قطعت بلهفتي حبل انتظاري

وحدد شوقي العاني مساري

فطرت إليك والأشجان فلك

توغل في الأثير بغير ساري

سوى قلب صنعت به شراعاً

ومجدافاً يدفء على اصطباري

لقد حمل على حبله زاد رحلة, حدد شوقه فيها مسارها.. آمال تصفق على يمينه. وأفراح تزغرد على يساره، وأحلام نهار تجب وجه الدمي.. اسلحة لا يستهان بها ماذا جاء حصادها!

وإن حصاد أيامي يكفي

هباء والأسى أحلى الثمار

الحب المستعصي لا تهزمه كل أسلحة التوسل والتسول.. الحب القوي يكسب الجولة..

الحب الضائع يسبقه دائماً أو يلحق به موعد ضائع.. يبدأ بالنجوى.. مروراً بالشكوى. نهاية بالبلوى.. لنستمع إلى ضياه:

قد أضعنا موعد اللقيا فضعنا

أترى نخطئ به إما رجعنا؟!

يا ربيع الحب قد جد الهوى

ودعانا فسمعنا واطعنا

أين لا أين فقد هب الأسى

ورمانا بالعوادي ففجعنا..

أنت في كف ضياع راعب

وأنا ألهث منه ما جزعنا..

ربيع حبه تحول إلى خريف مخيف شبيه بالربيع العربي الذي فرحنا به.. وجرحنا يوم أن اغتالته أكف الظلام قبل أن تتفتح أغصانه وتورق ثمرة حرية وعدالة اجتاعية.. كلاهما ربيع مريع وليس رائعا. الوجدان يبكي.. والأوطان أيضاً بدورها تبكي حين تدمر ويغتال انسانها أو يشرد.. شاعرنا تحدث عن الدمار الباكي:

لبنان. هل يسمح الأموات آهته

من بعد ما صم للأحياء أذان؟

من أخرس اليوم فيه صوت صيدحه

فاليوم ينعق فيه وهو حران

قد كان يرجو فتاتا من موائده

إذ الفتات الذي يلقاه أبدان

ومن ضراوتها راح الدمار به

يبكي عليه بدمع وهو نيران

وفي الكنائس للأجراس ولولة

يضج من وقعها دير ورهبان

لبنان كالأمس وما زال على صفيح ساخن.. اليوم الدمار الباكي تشهده عبر جغرافية وطننا العربي والإسلامي، العراق، سوريا، فلسطين، السودان، الصومال، اليمن، باكستان، أفغانستان، بورما.. توسع الشق على الراقع الأيام حبلى به لمفاجآته.

يعود شاعرنا الراحل إلى هيامه وغرامه (ليلى) اختطفه حبها لها:

ليلى قصيدة شعركل أسطرها

تقول: أنت المنى للمدلف الصادي

ظمآن والشوق يدمي كل جارحة

وليس تطفى بغير المبسم النادي

فهل تجودين لي منه بنائلة

كيما يعيد فؤادي لحن إنشادي

بمن دعتني ظبي القلب دعوتها

وجئتها عجلا من قبل ميعادي

في موقف كهذا في العجلة الندامة وفي التأني السلامة.. المرأة تستخف بالرجل كما الرجل فيمن لا يحترم دقة مواعيده.. ثم هذا اللهيب من الأشواق المشتعلة الذي يستعصي الماء على اطفائها بغير المبسم فيه ما يغري بالتمنع والاعتذار، والصمت، وهو ما آلت إليه تلك الأبيات اليتيمة دون جواب.. ناهيك عن المقابلة.

يرمي بنا شاعرنا سوياً في بحر هواه.. وجل محطاته بحور غرام وهيام متدفق:

ويلك يا بحر من غريق رماه

في عميق القرار منك الضياع

هل تحدى الإعصار فيك فألقاه

إلى قاعك السحيق الصراع؟

كان لي زورق على موجك الرا

قص . والخافق المعنّى الشراع

هل عويل الرياح يستدرج السـ

ـاري وقد طاب للسرا الاقلاع؟

كيف أغرقتني وإنى سبّاح

ولي في اقتحام هولك باع؟!

من حقه أن يسأل.. ومن واجبه أن يستمع إلى بحر هواه المتلاطم الذي لم يترك جدولا ولا نهراً، ولا بحراً، ولا بحيرة إلا ورمى فيها شباك صيده المثقوب والمعطوب الذي لا يقدر على الاقتناص.. كان هو نفسه الصياد الذي اصطاده من هو أذكى منه. وأدهى!

انه يعترف بضبابية الأوهام ومع هذا يغترف من ضبابها:

يا ضباب الأوهام أنت سراب

خادع لا يبل حر صدانا

ظمأ الشوق كان يلهب فينا

صبوة بالحنين تذكي جوانا

فاحترقنا بناره وطفقنا

نرتجي منك عارضاً ما روانا

احترقنا به فمضنا التصافي

ما ارتضينا بأن نذوق الهوانا

جميل أن يدفعنا الفشل إلى الاعتراف.. ليس في الحب وحده.. وإنما في الحياة.. الاعتراف بالفشل بداية النحاح.. أماني العمر حيث تصطدم بالمعوقات والاحباطات تأتي أليمة مرة المذاق.. هذا ما عبر عنه شاعرنا:

أماني العمر بددها الجحود

وفي كبدي لآمالي لحود

وفي صدري من الآلام جرح

ومن شجني على خطوي قيود

نحرت شباب أيامي بجهد

عبرت به الليالي وهي سود

ولم تعثر خطاي على سبيل

به أمشي وتدفعني الجهود

أغذ بها على جسر اصطباري

إلى الغايات عنها لا أحيد

هكذا يأتي التحدي وصولاً إلى الغايات والأهداف.. الحياة حقل تجارب خيرها الحقل الجسور الذي يعبره الإنسان دون تراجع، حتى مع فرحة العيد كان له صوت تحدي يعلو على صوت جراحه:

العيد فرحة عمر كنت أرقبها

فجاءني في صباح كله كدر

وما ندمت على عمر أضعته سدى

وفي مقاطعه الآلام تنتشر

وكيف أندم والأيام تشهد لي

أني المطيع لما يأتي به القدر

هكذا واجه قدره بثبات وصبر وإيمان.. شاعرنا استجاب لرغبة البكاء كي تجفف دموعه ما حاق بداخله من شكوى وشجن:

سوف أبكي على ليالي غرامي

بدموع هصرتها من عظامي

وسأروي بها الأماني وأمضي

في طريقي إلى فجاج الحمام

كنت والحب في الحياة تغني

كيف صرنا ضدين عبر الخصام

يا رفيقي فبعدها لا تسلني

هل سأرجو ابتسامة الأيام؟

كل شيء يهرم ويشيخ كما العمر ولا يبقى منه سوى الذكريات بحلوها ومرها.. وما فات مات:

أخيراً مع مقطوعته رياح الأسى.. ولعلها الرياح التي تسبق عاصمة الرحيل والبعاد:

يا رياح الأسى عصفتِ بقلب

لم تبق الأشجان فيه مكانا

وصفير الآلام فيه يدوي

بعد أن جن نبضه واستكانا

كبحت خفقتي وألقت بخطوي

في دروب عبرتها حيرانا

وأذابت بالسهر جفني واذكت

في حنايا اضلعي نيرانا

ومع هذا يجدف بقارب الرضا في بحر آلامه.. يعير لياليه الموحشة بفؤاد يرتل ألحان إيمانه.. لأنه الصابر المحتسب.:

وإنا في الطريق أعبر أيامي

وأمضي لمصرعي جذلانا

وبنفسي عزيمة تأنف الذل

وتأبى من الحياة الهوانا

واحتمالي ما ضاق ذرعاً بصبري

فصمودي قد زادني ايمانا

ويتساءل في بيته الأخير:

كيف لا أعشق الحياة وأرضى

بأساها وكيف أشكو الزمانا

عند هذا الحد نصل جميعاً مع شاعر الوجدان الراحل طاهر زمخشري عبر ديوانه (عبير الذكريات ومن خلال شعره الوجداني الرائع المليء بالصور الوجدانية والانفعالات النفسية - يرحمه الله.

الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338