Saturday 18/10/2014 Issue 447 السبت 24 ,ذو الحجة 1435 العدد
18/10/2014

العقل العربي (3)

يطرح الجابري في علاقة البيان بالبرهان قضية غاية في الأهمية تتصل بوظيفة اللغة في تحديد الحقيقة، والمسألة التي يطرحها الجابري هي أن الأفكار أو المعاني ينبغي أن تكون ثابتة باختلاف اللغات، وذلك اعتمادا على رأي الفارابي، منطلقا من أسبقية المعاني للألفاظ، وعلى هذا فلا قيمة لاختلاف اللغة، ولا قيمة للوقوف التفصيلي عند الألفاظ ودلالتها، واستنباط المعنى من الاختلافات اللغوية الدقيقة. ويؤكد هذا الاتجاه بالقول: إن منطق أرسطو خرج عن غايته حين تحول إلى أداة للمحاجة لإثبات قضايا قد عرفت عن طريق البيان، وهو بهذا يكون قد فقد جزءا من أثره في تحديد المقدمات وبيان ماهية الشيء؛ إذ الأصل في المنطق أن نتائجه ثابتة بناء على مقدماته بغض النظر عن المعاني اللغوية.

ويبدو لي أن الجابري يأخذ هذه المواقف موقف التسليم، لأنه يبسط أقوال الفارابي بكثيرمن التفصيل أولا، ويعيد القضية في الحديث عن علاقة البياني بالبرهاني بكثير من لوم العلماء القدماء الذين فرغوا منطق أرسطو من مضمونه وحوله من أن يكون منهجا كما هو مراد واضعه لأن يكون أداة، مع أنه يقر في موضع آخر من الكتاب بالعلاقة الكبيرة بين منطق أرسطو والنحو العربي، مما يعني أن هذا المنطق قد انتشر في مكونات العقل العربي المختلفة في مواضع متفرقة، ولم يفرغوه بقدر ما استثمروه.

وقد بدا ذلك حين صنع قائمة موازنة بين أبواب النحو وأبواب منطق ارسطو، مما يبدو منه جعل اللغة وعلاقات أجزائها تخضع للمنطق، وتتجاوز قضية أن تصبح ذات منطق خاص بها تفرضه على المتلقي بناء على طريقة تفكيره ونظرته للأشياء.

وقد وقف بعض الدارسين عند هذه المسألة باحثين قضية العلة النحوية ومدى صحة ارتباط الحكم الإعرابي بها كعلة الرفع، وعلة النصب، وعلة الخفض، وعلة تقديم الفاعل على المفعول، وتقديم المبتدأ على الخبر، وكذلك العامل النحوي كعامل رفع المبتدأ ورفع الخبر. الأمر الذي انعكس على فهم اللغة وتحديد دلالاتها بناء على تأثير علاقات تراكيبها ببعضها.

إلا أن القضية ليست بهذه السهولة، فهي ترتبط في ظني بعلاقة اللغة الفكر، والتي تحدث عنها الدارسون المحدثون بكثير من الإسهاب ويدخل جزء منها في مبحث فلسلفة اللغة، فهذه الموجودات المحسوسة ليست موجودة في الذهن وإنما الموجود في الأذهان تصورات عنها دخلت إلى الأذهان عن طريق الحواس بما فيها اللغة التي تتصل بالسمع، فصورتها في الذهن تشكلت عن طريق هذه الأصوات وغيرها من الحواس, وهذا الأمر ينعقد في الأشياء المعنوية التي لا وجود لها حقيقي مجسد فيعمد الإنسان إلى ربطها بمعان أخرى بناء على تقارب إحساسه بها. إذاً الإحساس عماد إدراك المعنى، وهذا الإحساس يأتي عن طريق اللغة، فتكون المعنى في ذهن المتلقي ليست عملية عقلية صرفة، ولا ثابتة بثبات اللغات كما ذكر الفارابي وإنما متغيرة بتغير أصحاب اللغات، وإذا كانت الموجودات سابقة للغة كما يقول، فإن العلاقة بين هذه الموجودات لا يمكن أن تكون إلا باللغة وهو مداراستنباط المعنى وفهم الدلالة. صحيح أن الانجراف في الاعتماد على اللغة في استنباط المعنى وتحديد ماهيات الأشياء حتى نتابع الفروق الدقيقة التي تختلف من سياق إلى سياق، ومن متحدث إلى آخر ومن نبرة صوت إلى أخرى حتى قال قائلهم: كل زيادة في المبنى هذ زيادة في المعنى، بل أبعد من ذلك مما يختلف أيضا من قول نحوي إلى آخر أو قول بلاغي إلى آخر مما قد لا يكون له انعكاس جذري على المعاني، أو على نتائج الحكم المستنبط من التراكيب. يعني أن هذه المعاني ليست لازمة للنص ولا محكوما بها عليه. ولربما كان هذا الاتجاه في الاعتماد على اللغة في تحديد الماهية، وبناء المقدمات والتصورات هو السبب وراء الكتب المؤلفة في الفروق اللغوية، والسعي وراء تحديد المعنى الدقيق لكل لفظة خاص بها ونشأة نظرية المجاز في اللغة.

وعلاقة اللغة بالفكر ليست علاقة تصورات ورموز وحسب، وإنما علاقة تأثر وتأثير أيضا، فقد يكون هناك تصورات ليس لها وجود لغوي من مثل المخترعات الحديثة التي لا وجود لها في اللغة ثم يحاول المفكرون البحث لها عن رموز صوتية لها، وقد يكون لها رموز صوتية ولكن المدلول لا يتصل بالتركيب اللغوي، وإنما يتصل بمعلومات ثقافية تتصل بالمتلقي، فعلاقة الفكرة هنا تتجاوز اللغة إلى تجربة وثقافة المتلقي الذي يعلم أن هذا المعنى لايمكن أن يستنبط من هذه اللفظة، وهذا في المعاني الاصطلاحية من مثل «الإحرام»، فالإحرام مصدر للفعل أحرم الذي يعني الدخول في الحرم كما تقول: أنجد إذا دخلت نجدا، وأتهم إذا دخلت تهامة، وأشأم إذا دخلت الشام. أما نية دخول النسك مع لبس الإزار والرداء عند الميقات فإنه يحتاج إلى ثقافة وتجربة حتى يدرك الإنسان هذا المعنى ولا يكفي أن يكون عالما باللغة ودلالتها مما يعني أنه ليس معنى لغويا ولكنه فكري أيضا.

وقد يكون هناك موجودات لغوية ليس لها تصورات فكرية دقيقة مثل عالم الغيب، والآخرة، وكحياة البرزخ، والجنة والنار وغيرها مما يمكن أن يعبر عنه الإنسان، ولا يستطيع أن يتصوره الذهن، وقد روي عن ابن عباس أنه يقول: ليس في الجنة مما في الدنيا سوى الأسماء. ويعد ابن عربي هذا نوعا من الوجود، فالوجود لديه أربعة أنواع منها الوجود اللغوي الذي يتحقق باللغة ولكنه لا يتحقق بالواقع وقد لا يتحقق بالخيال بمعنى لا يمكن تصوره، ثم يليه الوجود الخيالي بمعنى أن يتصوره الإنسان ولكنه محال في الواقع كأن يتصور الإنسان أنه يطير بجسده وبلا آلة تساعده.

وعلى هذا فإن دور اللغة في تحديد المعنى كبير بوصفها هي الناقلة له، ولكن لا يعتمد عليها وحدها، ولا يستغني عن الوسائل المنهجية الأخرى. ولوكانت الأشياء والمعاني ثابتة في اللغات كلها، لما اختلفت الترجمات من مترجم إلى آخر، ولما قيل: إن الترجمة خيانة بمعنى أنها لا تؤدي المعنى الأصلي بشكل كبير، ولما تغيرت النظرية حين تنتقل من بيئة إلى بيئة فيما عرف بهجرة النظرية كما أشار الجابري نفسه وما سماه بتبيئة النظرية.

ثم إن هذه المقولات هي صدى للخصومة القديمة في المفاضلة بين اللفظ والمعنى، والمفهوم من كلام الأستاذ الجابري أن البيانيين ينتصرون للفظ في حين ينتصر الفلاسفة للمعنى، ولكن الدرس اللغوي أثبت أن هذه الثنائية لا وجود لها على وجه الحقيقة، فالمعنى يتكون من خلال اللفظ كما أن اللفظ بلا معنى لا قيمة له، وإنما هو صوت غير مفهوم، فاللفظ علامة أو دال وما يقر في ذهن المتحدث أو السامع هو المدلول وهما متلازمان.

وعلى هذا فإن إلغاء البياني لصالح البرهاني، هو بمثابة إلغاء البرهاني لصالح البياني، والأمر يعتمد على ما تعارف عليه المتحدثون باللغة من دلالة للغة تلزم المتحدث بها، والسامع لها لزوما لا يمكن أن يخرج منه إلى التأويل. وهي وإن كانت قضية طويلة ترتد لكل ما كتب في هذا الموضوع إلا أنها لا يمكن أن تحد من خلال التواضع والاتفاق، كما تواضع أهل اللغة على معاني الألفاظ المفردة وحددوا دلالتها بالمعاجم وكتب الألفاظ.

- الرياض alshatwy@gmail.com