Saturday 18/10/2014 Issue 447 السبت 24 ,ذو الحجة 1435 العدد
18/10/2014

غربة المكان 2 ـ 2

كان الأدب الكلاسيكي، يسيطر على الحياة الأدبية مع بداية المذهب الواقعي، وينطلق من روسيا وما جاورها في تلكـ المرحلة، وتنتشر أعمالاً لتولستوي وبوشكين وغوركي وغوغول وغيرهم في المحيط العربي، فكانت الصحافة في تلكـ المرحلة هي وسيلتنا الوحيدة، نعبرُ من خلالها عن افكارنا الإصلاحية والنقد، وتناثرت مصطلحات جديدة مثل: الرأي العام، والمصلحة الوطنية، والعادات والتقاليد، والمساس بالشريعة، والخوف من الحداثة، والأفكار الجديدة في مجتمعٍ، يعاني من الجهل والتشددّ، وغياب أي لون من وسائل التثقيف والترفيه الأخرى.

أستاذنا إبراهيم الناصر الحميدان في لحظة مكاشفة، يعترف بنرجسيته فيظن في نفسه الاختلاف عن غيره، يملك عقلا يتصف بالذكاء، وأرجح من غيره، فيتوسل الكذب لتحقيق مكاسب، ولكنه في الواقع كان مجرد خيال، ينبئ عن ضعف يحكم تصرفاته اليومية، يأتي رغم قناعته بالمثالية في مسيرته الأدبية، ولكنه يعزو تصرفاته وسلوكه في مرحلة الشباب، بأنه كان يطمئن لوجود والدته ( كمحامي ) دائماً لتحميه من فشله، والمرأة حاضرة في سيرة الأستاذ الحميدان، كما هي حاضرة بقوة في نصه السردي وبالذات الروائي، فقد حملت نصوصه معالجة قضايا المرأة بأوجه مختلفة، فيذكر أن المرأة كانت هاجسه منذ الطفولة، إذ وجد أن المرأة لصيقة بالرجل في كافة مراحل الحياة، وشريكة في كامل تفاصيل حياته، فتأتي على مستوى أم وأخت وبنت وزوجة في المنزل، وتكون زميلة وصديقة في المكتب والعمل، إذ يورد في إحدى الصفحات، أنه انشغل منذ شبابه بقضية المرأة، أحبها ودافع عن قضاياها، ويزدريها أحياناً حينما تقع في براثن الاستسلام، فلا تعي مكانتها و دورها في الحياة الإنسانية، كشريكـ يتساوى في البذل والعطاء لغاية نبيلة، وركز حياته على حب هذا الكائن الناعم المشاكس، وهي تواجه الرجل فينتصر الأقوى شكيمة وحجة، ويستغرب من هذا الرجل الذي يناصبها العداء، ويركض وراءها إذا غضبت، واستشاطت من الألم النفسي والجسدي، وليتهم يعلمون أن تاريخنا الماضي، وتاريخ كل الأمم المتحضرة، يشهد بوصول نساء إلى أرفع المواقع القيادية.

الإنسان المرهف الحس الذي يعشق الجمال، ويحب المرأة بشغفٍ وينحاز لقضاياها، ساقته الظروف ليعمل رئيس مكتب المستشفى العسكري في مدينة الدمام، وعليه أن يعمل مؤقتا بالمستشفى العسكري في الرياض، قد رسمت له الظروف أيضاً مشوار الحياة، وخطوات المعايشة والتجربة والكتابة، وجاء إحساسه بمسؤوليته الإدارية مقروناً برؤيته كفنان وكاتب، وكان لوجود الممرضات من مختلف الجنسيات، وكن يعانين في ظروف بالغة التعقيد ليس فقط من المتشددين، فقد كانت إدارة المستشفى تجد حماية عسكرية لهن، وهن يقدمن خدمة لمرضى ينشدون الصحة عبر الألم والأنين فوق أسرتهم البيضاء، ولكن من المرضى والمراجعين الذين يتعاملون معهن بنظرة دونية، ويصفهن بعضهم بجهل وعدم احترام بالخادمات، فجعله عمله في هذا الفضاء، يمضي في هذا الاتجاه المناصر لقضايا المرأة، ليتم له الاقتران بزوجه مصرية الجنسية، ويرتب ظروفه للحياة والبقاء في العاصمة الرياض، ويسعى في اتجاه آخر لتكريس واقعه الثقافي، فكان يكتب في صحيفة القصيم وصحيفة اليمامة، وينشر قصصاً وقدم المجموعة الأولى له فإن «أمهاتنا والنضال»، طبعت في مصر ولم تعجبه طباعتها وورقها، وبالمناسبة فأن كل أعماله السردية تحمل عناوين أنثوية، وظل يتنقل باحثاً عن الاستقرار من عملٍ إلى أخر، فعمل في وزارة المواصلات عامين مشرفاً على مجلة للوزارة، لكن لم يطل به المقام بعد خروج وزيرها عبد الله السعد، وتم تعيينه مديراً لمكتب وكيل وزارة التجارة، وتم انتدابه إلى الدمام لمكافأته على نشاطه، وهناك حدثت التحولات الجذرية في حياته.

ويروي الأستاذ إبراهيم الناصر في مذكراته جانباً من قصة اعتقاله، وجاء الحوار فيها بينه وبين الضابط المثقف رفيعاً وراقياً، وقد اعتقله في مكتبه بهدوء، وهما في طريقهما إلى الرياض من الدمام، وأجمل ما جاء في الحوار، وقد أخذ جانباً مهما من أحد فصول المذكرات، فقد كان حوار مكاشفة بحرية متناهية، دار بين أديب في طريقه للاعتقال، وضابط يؤدي عمله بأمانة وإخلاص، وكلاهما يعشق وطنه ويتمنى نموه وتطوره، لينتهي الطواف والترحال بأديبنا إلى غربة مكان حقيقة، ما لبث أن وصلته رسالة من جاره في الغرفة الآخرى، وكان ذات الرجل الذي توسط له ليعمل في المستشفى، مما جعل الحميدان يهدأ ويطمئن ويمازحه، ويكتب على نفس الورقة التي وصلته من تحت الباب، قائلاً:

- إقامة سعيدة يا أبا البنات!

و يروي جانباً إنسانياً آخر من مذكراته، فيذكر ان طلبه مصحفاً لقي استحسان آمر المعتقل، وعممه على بقية السجون بل أن العساكر كانوا يزودونه بالكتب، وطلب أحدهم منه أن يكتب له معروضاً لتتم ترقيته، وحلّ مشكلة آخر رفضت زوجته أن تلتحق به، ورفض والدها أن يتخلى عن مبلغ مالي، يقبضه في نهاية كل شهر من عملها، فشكلت له تلك العلاقة الحميمة حاجزا يحميه، مما يصاب به رواد السجون والمعتقلات الانفرادية، كحالات الكآبة وانفصام الشخصية ومظاهر الجنون. ويذكر أن المحاكمات كانت مقبولة وتتسم بالعدل وعدم الاستفزاز، ونجيب بمحض إرادتنا ومن غير خوف، والمؤكد أنهم قد اتخذوا اقرارات اقتنعوا بها، ليخرجوا بعد عام ونصف عند ما أفرج عنهم، مفصولين من وظائفهم ليواجهوا الحياة من جديد. وحرمانه من (الفلل) السكنية التي كانت الوزارات، تقدمها لموظفيها القدامى القاطنين بالرياض، فسعى رجل الأعمال عبد الله العلي الصانع إلى دفعه، وشراء أرض بالتقسيط من تجار العقار، وهذه الشريحة من المجتمع يعتبر جشعهم بؤسا للمواطنين.

كانت الحكايات والقصص القديمة، تنهض في رأسه، فقد تراءت له بعضها في الليالي المظلمة، وتكون بعضها قاسية ومؤلمة أكثر من المعتقل ذاته، ويأتي مقتل زميله وصديقه الشاب يوسف أولها، وقد أصابته رصاصة في رأسه داخل شاحنة، يستقلانها ليجتازا حدود الكويت والعراق في شبابهما بالتهريب، وهما يبحثان في مسعى طائش كما يصفه، لتحقيق طموحاتهما واستقلالهما عن آسرهما، فكانت تلكـ النهاية المؤلمة لرفيق دربه، تنهض في مخيلته وهو يرى الدم ينبثق من رأسه، ويسيل بين قدميه ورأس منكفئ إلى الأرض، فتعود إليه تلك الرعشة والعجز والنشيج المتقطع، وقد عجز عن حمل جسد صديقه المتخشب، والعودة به ميتاً إلى أهله، وقد أقدم على عمل ينطوي على مغامرة في المعتقل، والبدء بكتابة عمل روائي جديد، وأظنه بدون أن يسميه يقصد رواية (سفينة الموتى)، وقد ظلت ممنوعة لا تصل للقارئ هنا لمدة أربعين عاماً.

وتكشف نصوصه السردية المتنوعة، ميله إلى محبة شريحة الفقراء والأطفال والنساء، ولكننا نقف هنا – في مذكراته، لنكتشف كرهه للمثقفين والمتشددين على السواء، وأزعم بأني كنت له صديقاً حميماً جدا وجاراً وزميلاً لسنوات طويلة، ولم أكتشف وألمس تلك الكراهية، فقد كان محباً للناس جميعاً، وحظيت الأجيال السردية وبالذات جماعة السرد، وقد سعى وساهم في تشكيلها ولم يبخل بمحبته لأعضائها، لنجد المبررات له في هذه المذكرات، وسبب كرهه لشرائح من المتشددين وبعض المثقفين، فبعضهم في نظره يعيش أزمة اختيار بين النظرية والتطبيق، والتجانس بين ما يعتقده ويعيشه بصورة واقعية.

وليعذرني في النهاية، قارئ هذه الأسطر السريعة هنا – فقد مررت بمعلومات وأفكار وأسماء وتجارب غزيرة، كنت أعرف بعضها بحكم تشرفي بالقرب من أستاذنا الراحل الكبير رحمه الله، وفوجئت بالبعض الآخر بل كان صادماً لي، قد لا تسمح لي هذه المساحة المحدودة بتناولها، وبعضها مؤلماً وأخر مضحكاً، وتشعركـ اخرى بالبهجة، لكنها في العموم لا تخلو من الصدق والمعرفة، وشفافية لكشف كثير من المستور، فالفكر يناطح الجهل ويكشف العورات، والنقد نوع من التنوع والثراء لصالح المجتمعات، وما الغربة والاغتراب والسفر والهجرة الذي حملت هذه المذكرات عنوانها إلا هاجساً، ظل الأستاذ الحميدان يلون عليها نسيجه الكتابي، ويستفيد كما - يقول – منها في نصه الكتابي وبالذات رواية ( غيوم الخريف )، وقد تشكلت فصولها في إحدى رحلاته لليونان، وليعذرني قارئ هذه السطور دون أن تنتهي رحلة الذكريات المفعمة والثرية، وقد بقي منها الكثير أمل أن أجد الزمن والمكان الملائم للعودة لها.

- الرياض