Saturday 19/04/2014 Issue 435 السبت 19 ,جمادى الآخر 1435 العدد

مساحات جديدة للعاطفة

عندما يتناول العالم قصص الحب العذري، هل يطرأ ببالك أناس غير العرب؟

التشبيب، العشق، الحب، الهوى، الصبابة، الهيام، الشغف، العلاقة، اللوعة، الوجد، التيم، التبل،. وإذا شئناً أن نكشف معاني هذه الألفاظ، ونعرف مدلولاتها، فأنها لا تخرج عن مخاطبة المرأة عند العرب..

إن الغزل العذري اكتسب اسمه من قبيلة بني عذرة إحدى قبائل قضاعة التي كانت تنزل في وادي القرى شمالي الحجاز، لأن شعراءها أكثروا من التغني به ونظمه ويصيرون إلى الجنون ومن قبيل صدفة غريبة فإن هؤلاء العشاق المتيمين ينتمون إلى قبيلة أصيلة الجنوب العربي.

قد يكون من العبث أن تحدد ولادة هذا الفن الشعري ذلك أنه ظاهرة من الظواهر الفنية التي ترتبط أشد الارتباط بالظواهر الاجتماعية... ومثل هذه الظواهر تمتاز بأنها ليست منفصلة عما قبلها ولا منفصلة عما بعدها... فليس لها هذا التوقيت، وليس في صورتها المكتملة التي نراها عليها ما يبيح لنا أن نقول إنها نشأت في هذا العصر أو استوت في هذه الفترة.

وكان الإسلام أقوى العوامل في ظهور هذا النوع من الغزل؛ إذ خلق إدراكا جديدا للعاطفة، فيما دعا إليه من جهاد النفس، ومقاومة الهوى.

يقول الدكتور ياسين الأيوبي: حول هذا الموضوع» وهو ردة فعل في وجه الحب الصريح، ظهر على مسرح الحياة العربية، في أواسط العصر الأموي لدى جماعة عاشت في بيئة حجازية ضيقة، لا تعرف إلا الصحاري والفراغ والضجر. ولم يعرف أول متغزل بهذا النوع بالضبط، وإنما عرف من أحبوا بطريقته». وإنه يواصل حديثه وثم يقول: قلت إنه ردة فعل في وجه الحب الإباحي، وقد لا يكون ذلك مؤكدا. وقد يكون وجها آخر من الحياة العاطفية العربية حيث نجد إنسانا يحب بطريقة ما، وآخر يحب بطريقة أخرى...مع أن هؤلاء الشعراء المحبين لا بد من التفاتة قصيرة: وهي أنهم عاشوا في شقوة قاسية مردها البؤس واليأس في كثير من أوقات حياتهم، ولاسيما أن التقاليد كانت صارمة على أبناء العشق؛ فويل للرجل إن أحب وويل أن يعلن حبه. وويل له إن كتم هذا الحب وويل أكثر إن أشاعه.

الدكتور الحوفي: يؤكد أنه نشأ في العصر الجاهلي وأورد على ذلك شواهد في قصائد مستقلة للحب الخالص لا شيء فيها سوى الغزل منها لقيس بن الحدادية قصيدة غزلية في أربعة وأربعين بيتا وأخرى لحسان في سبعة عشر بيتا وهذه القصائد أثر الغزل المادي فيها ضئيل؛ فنحن نرى للنابغة الذبياني قصيدة من هذا النوع يتغزل بحبيبته.

قال ابن دريد: اعلم إن أكثر الحروف استعمالاً عند العرب، الواو، الياء، الهمزة. وأقل ما يستعملونه على ألسنتهم لثقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشين ثم القاف ثم الحاء ثم العين ثم النون ثم اللام ثم الراء، ثم الباء.

ولعلك ترى أن حروف ألفاظ الغزل التي ذكرتها هي من هذه الحروف كثيرة الاستعمال على رأي ابن دريد.

ويظهر أن هذه السهولة تخطت ألفاظ الغزل إلى أسماء نساء الغزل، فترى أمثال دعد، هند، ليلى، لبنى، سلمى، عزة وبثينة. وهي أسماء سهلة عذبة في النطق حلوة في اللسان.

قيل لعتبة بعد موت عاشقها: ما كان يضرك لو أمتعتيه بوجهك؟ قالت: منعني من ذلك خوف العار، وشماتة الجار، ومخافة الجبار، وإن بقلبي أضعاف ما بقلبه غير أني أجد ستره أبقى للمودة، وأحمد للعاقبة، وأطوع للرب، وأخف للذنب.

الملاحظ أن العرب افتخروا بالعفة في مشاعرهم على مر العصور ابتداء من نهاية العصر الجاهلي، وتعددت الأسباب وظل أهم وأعظم سببا هو الخوف من الله ورغبة في نيل محبته، وبقية الأسباب كانت من أصول الأخلاق العربية كالخوف من العار، وخشية ذهاب الحب بالوصال، أو الحياء والاحتشام، أو الرغبة في جميل الذكر وحسن الحديث، أو الإبقاء على الجاه والمروءة وحفظ قدر الحبيب عند محبوبه، أو كرم وشرف نفسه وعلو همته ، أو لذة الظفر بالعفة.

وهل هناك قصص تفوق قصة حب قيس لليلى أو جميل لبثينة أو ليلى الأخيلية وتوبه عفه!

قيس بن الملوح. ويدعى بمجنون ليلي، نسبه إلي ليلي التي اشتهر بحبه لها. ولم يعرف أنه تغزل في غيرها..

اعد الليالي ليلة بعد ليلة

وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا

أراني إذا صليت يممت نحوها

بوجهي وان كان المصلى ورائيا

قال نفطوية:

كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني.. منه الحياء وخوف الله والحذر وكان ومازال العرب يفخرون بالعفة قديما وحديثا:

قال مسلم بن الوليد:

ألا رب يوم صادق العيش نلته

بها ونداماي العفافة والنهى

قيل لليلى الأخيلية: هل كان بينك وبين توبه ما يكرهه الله؟ قالت: إذن أكون منسلخة من ديني إن كنت ارتكبت عظيما ثم أتبعه بالكذب.

وقال ابن علاثه: دخلت على رجل من الأعراب خيمته وهو يئن فقلت: ما شأنك؟ قال: عاشق، فقلت له: ممن الرجل؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا عفّه، فجعلت أعذله وأزهده فيما هو فيه، فتنفس الصعداء ثم قال:

ليس لي مسعد فأشكو اليه

إنما يسعد الحزين الحزين

قال الزبير بن بكّار عن عباس بن سهل الساعدي قال: بينما أنا بالشام إذا لقيني رجل من أصحابي فقال: هل لكم في «جميل» نعوده؟ فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه وما يخيّل إليّ إلا أن الموت يكرثه، فنظر إليّ ثم قال: يا ابن سهل، ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط ّ؟ ولم يزنِ، ولم يقتل نفسا؟ ويشهد أن لا إله إلاّ الله؟ قلت: أظنه قد نجا وأرجو له الجنة، فمن هذا الرجل؟

قال: أنا، قلت: والله ما أحسبك سلمت وأنت تتغزل منذ عشرين سنة في بثينة، فقال: لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم ألقيامه، فإني في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا أم كنت وضعت يدي عليها لريبه. فما برحنا حتى مات.

وقال مخرمه بن عثمان: نبئت أن فتى من العباد هوى جاريه من أهل ألبصره فبعث إليها يخطبها فامتنعت وقالت: إن أراد غير ذلك فعلت، فأرسل إليها: سبحان الله! أدعوك إلى ما لا إثم فيه وتدعينني إلى ما لا يصلح؟

فقالت: قد أخبرتك بالذي عندي فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر.

فقال:

وأسألها الحلال وتدع قلبي

إلى ما لا أريد من الحرام

فلما علمت أنه امتنع عن الفاحشة أرسلت إليه: أنا بين يديك على الذي تحب، فأرسل لها: لا حاجة لنا فيمن دعوناه إلى الطاعة ودعانا إلى المعصية. وقال عمر بن شبّه: سمعت بعض المدنيين يقول: كان الرجل يحب الفتاة فيطوف بدارها حولا يفرح أن يرى من يراها، فإن ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار، واليوم يشير إليها وتشير إليه فيعدها وتعده فإذا التقيا لم يشك حبّا ولم ينشد شعرا.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن يوسف الصديق من العفاف أعظم ما يكون، فإن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره فإن يوسف كان شابا وكان أعزب وكان غريبا عن أهله ووطنه، وكان في صورة المملوك والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، وكانت المرأة ذات منصب وجمال ولذلك كانت قصته من أعظم قصص العفة.

أحلام الفهمي - الدمام