Saturday 19/04/2014 Issue 435 السبت 19 ,جمادى الآخر 1435 العدد

أحمد الدويحي

تراوري في (جيران زمزم): (2- 2)

19/04/2014

(هوية البخور)!

في رواية (جيران زمزم) ما زال يتصاعد كلام البخور، وتتالى نشوة فناجين القهوة، ونحسبُ أن كاتبنا الذي كان يطوف بنا غابات كمبوديا، ويلجُ بنا أرخبيلات جاوة، ويبحر بنا منتشياً عند سواحل وتخوم ظفار، ظفار التي اشتهرت بصناعة المجامر، وترتبط بالبخور الظفاري، تفننت وأبدعت في ابتكار أنواع عديدة بأشكال جميلة من المباخر المزينة بألوان زاهية، توقظ في ذاكرتك المباخر القديمة التي أحرق فيها عبد المطلب كثيراً من بخور مكة، الذي لا يشابه دخانه ذلك الذي خرج من آهات الصغيرات.

حرصت في بداية هذه الحلقة الكتابية، السعي إلى اجتزاء مفردات بعينها من الرواية، لأدلل على ما ذهب إليه محمود، ليؤكد في سياقات الحدث من تراكمات تاريخية، يأخذننا في لمحة فنية مدهشة بواسطة روائح البخور إلى عوالم باطنية، حينما يستحضر الأحياء وأصحاب المهن الحرة والحرفية حتى تصفى مكة لأهل الوادي !

يمتد حديث البخور في المكان والتاريخ والطقس الديني، فالبخور المستخدم في الصلاة والعبادة له مواصفات وله قدسية خاصة، وهو كذلك أيضاً عند موسى وهارون ونوح وفي الكنيسة، كل شيء يتجذر في (جيران زمزم) إلا شخوصها، فهم على كثرتهم لا تستبين منهم إلا صفاتهم، ونادر تحضر الأسماء، ولكنه حينما يلامس الواقع بواسطة أحد هؤلاء الشخوص، فأنه يتحدث بصراحة حول الهوية والانتماء، وتحضر المدن كالطائف والمدينة وجدة والرياض والوزير ورئيس التحرير، كما تحضر أسماء الحارات واللهجة الشعبية المكية. وتحضر هوية الكلام وهوية الشخوص بمعرفة عميقة، ويتم توظيفهم باختلاف مقاماتهم ومراكزهم، ولنا أن نتأمل المعنى بين شخصيتين في تكـ المفارقة الثقافية، الأولى طلال شقيق الراوي وهو شخصية حاسمة يتصف بالشجاعة والحكمة، وقد أفتقده الراوي في عين المكان، وتذكر حينما سأله من قبل أن كان هما بدو أم حضر؟ ليجيب في البداية طلال شقيقه بسخرية (أمريكان!)، ويكمل: (شوف يا ولد أمي وأبويا الأوطان خرافة كبيييييييييرة تلقها في قصيدة شعر، الوطن يا خويا مكان تشعر بإنسانيتك ص 63)، والمفارقة الأخرى الثانية ، تأتي في قول رئيس تحرير عرفناه بصفاته، يتحدث على مقربة من الوزير القادم من الرياض، فيتقعر بصوت مقزز وبفصحى شديدة التكلف، تشوه جمال اللغة، قائلاً: ( لو سمحت لي يا طويل العمر أنا أرى نه بقدر ما كان القرن الواحد والعشرون جميلاً بكل إنجازاته ومعطياته الحضارية والفكرية والتكنولوجية، بقدر ما كان قد توالد فيه من نزعات واتجاهات وسياسات وحروب وأوبئة ودكتاتوريات وثورات بدائية وحركات عنيدة وعنيفة أضّرت بالإنسان وأخلت بمنظوماته القيمية ونالت من إمكانياته وعطلت إبداعاته وبددت ثرواته وأفقرت قدراته وسفكت دمائه وبطشت بوجوده ص63). لكن رئيس التحرير توقف عن الكلام غصباً عنه، عندما نهض طويل العمر القادم من الرياض لاستقبال وفود، منحهم احترامه وتقديره، أكثر مما ناله رئيس التحرير الدكتور الذي وصفه الضيف القادم من الرياض في نهاية الليل بالغبي.

وقد ورد على لسان طلال شقيق الراوي عنه ما هو أشنع وأنكأ.

شربة من زمزم وسقاني

شربة من زمزم ورواني

تتساقط كلمات وأغاني الدراويش غير متنافرة، فتحتضنها البلابل وتصدح بعذوبة:

يا هل الحرم بالله

ردوا عليه روحي

عند النقا ويلاه

ضيعت أنا روحي

تعرف مكة وأهلها، كيف يتعاملون مع القادمين للحج، حينما تتعالى تجليات الدراويش والصوفيون، وأحدهم سيدي حسان يفتح أبواباً للطرق تدلنا على أول الدروب، والكتابة (الميتافيزيقية) في النهاية هي كتابة تّطهرُ، فالأرواح التي تهاجر على رائحة البخور، تحضر في صورة أفعال وردود أفعال قيميه، وإذ تختزل الحكايات في شخوصها إلى إيماءات في عالم أسطوري، والكاتب يذهب بنا في عوالم متنوعة، تفرض تعدد الشخصيات بما يقتضي السياق، لكنها كما ذكرت في موقع أخر شخصيات لا تنمو، ولا تتصاعد في جسد النص إلا القلة وبالذات الشخصيات الرجالية، وتحضر المرأة في نماذج من نفس هذا العالم الأسطوري، حيث يقف بنا الكاتب متسائلاً معنا، لماذا هذا الاستغراق في عالم البخور؟ ويضيف: عند هذه النقطة بالذات، بدأ الرجل الأنيق منفعلاً لمرة وحيدة، وهو يردّد بثقة مطلقة:

(أغلب المصادر التي تناولت تاريخ العرب وثروتهم ومنعة صحاريهم، لم تلتفت إلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في المجتمعات العربية التي قامت على طول طريق تجارة البخور، تلكـ التحولات التي غيّرت طبيعة المجتمعات، وفتحت لها آفاقاً جديدة في ميادين الفكر والمعرفة الإنسانية).

أتوقف مضطراً في الحلقة الثانية من المضي في كتابة موازية، لرواي ة الصديق الحميم محمود تراوري (جيران زمزم) التي تحمل حشداً من اللغة الشعرية والمعرفية، وتتجلى فيها فنتازيا خلاقة ونصوص شعرية وعالم طقوسي روحاني، وتحرض أجواؤها على القراءة والمتعة والمعرفة، أكثر مما تحرض على الكتابة، ويبدو أن محمود قد أختار التقطيع بعناوين فرعية، ليحكم سياق رواية تلج بنا في كل باب كما يتضح، وليجب في نفس الوقت على أسئلة تطرحها الرواية ذاتها، أسئلة تنهمر وتثري و تتجاوز في أحيان كثيرة (جيران زمزم) ولكنها تتصل بهم حتماً من طرفٍ خفي، نعم سيدي نعم.. جيران زمزم.. وجارهم لا يضام.

ولا بد من وداع سيدي حسان الذي حين أدركنا الغسق، حك رأسه وهرش جسده وطلبني أن آتيه بزمزم، وقال إن عدت ولم تجدني لا تبحث عني، أترك الماء حيث تركتني..

ومضيت نحو بئر زمزم، استعدت بقلبي بئراً عظيمة عند باب إبراهيم، وبئراً في دار أبي سفيان بالمدعى، فتبسمت لأنه أخبرني أنه مذ جاء جهيمان، أغلقت خلوته، وأستبدلها بأخرى قريبة من دار أبي سفيان، ليس لها باب لكنه قال أنّا سندخلها بسلام آمنين. وهناك ستسطع الحقيقة.

الجميل في هذه الرواية الشاسعة أنها بدأت بقصيدة للراحل محمد الثبيتي رحمه الله، وانتهت بمقاطع من نفس القصيدة، وكأن محمود يردد الجملة الأخيرة لجيران زمزم، أشرب يا وأد هذه أخر قلة أحملها لسيدي!!

- الرياض