Saturday 20/12/2014 Issue 456 السبت 28 ,صفر 1436 العدد
20/12/2014

صناعة الدّجال (1)

إذا أردنا تحليل طريقة تفكير وسلوك فرد أو مجموعة أفراد أو جماعة ذات توجُّه أيديولوجي خاص، وجدناها سلسلة من دلالات المفاهيم الذهنية وبِنى من المعاني؛ أي أن كل مفهوم يُصاغ من خلال مجموع من الوقائع، وهو ما يعني أن المفهوم هو رمز تطبيقي للواقعة، ويعني أيضاً إمكانية سلوك المرء وفق التحكم في المؤثرات المعينة بإنتاج أثر خاص.

لأن تكرار الموقف ذي المؤثر المشترك المتحكم في صناعة الوحدة التمثيلية، ينتج السلوك ذاته، وهنا يسقط أي اعتبار مرتبط بساعة الزمن سواء على مستوى القوالب اللغوية أو الأفعال الحاصلة من تدريبات البرمجة التي تخضع لها الأنا المتطرفة.

وبذلك تصبح الدوافع باعتبار أن ظهورها نتيجة ضغط فكرة أو فعل معاكس هي التي تتحكم في سلوك الإنسان، وهو ما يعني أن دراسة ظاهرة التطرف وما يحيطها من جماعات لا يمكن اكتشاف سلوكها وأفكارها إلا من خلال قراءة متعمقة في برامج التدريبات المبرمجة التي تخضع لها الأنا المتطرفة، وتُنشئ من خلالها الجماعات الدينية المتطرفة.

يتحكم خطاب القصدية في تربية الأنا المتطرفة وتشكيل الجماعات الدينية المتطرفة.

من خلال حبسها في خطية أحادية، وهذا ما يسعى إليه صانع خطاب القصدية، أي مصادرة الطبيعة الحيادية للأنا المتطرفة لمصلحة جدولة أحادية موجهة إنتاج الأفكار المتطرفة التي تنتج بدورها انفعالاً وسلوكاً يتصفان بخاصية مغلقة.

وهذا أمر مهم لأنه هو الذي يؤدي إلى تشكيل هوية الجماعات المتطرفة.

بعد السيطرة على وعي الأنا المتطرفة عبر جيتوهات خفية يؤسسها خطاب القصدية وبرامج المحو والبناء لإعادة تأسيس الأنا في صياغتها المتطرفة.

ضمن هوية وصفات شخصية مادية ومعنوية مخصوصة تنمو في ضوئها الجماعة الأيديولوجية، وهو ما يحوّل الجماعة الأيديولوجية إلى «جيتو» داخل المجتمع، يظل ينسحب من المجتمع تدريجياً ليشكّل فيما بعد مجتمعاً مستقلاً داخل المجتمع ودستوراً مستقلاً فوق دستور المجتمع وأنظمة معيشية وفكرية مستقلة موازية للمجتمع الأصلي.

ومجتمع الجماعات الأيديولوجية التي تتشكّل من الأنوات المتطرفة، غالباً ما يقوم على «العلاقة البسيطة» والتي تتألف من جذر وطبقة وسطح لا يفصل بين الجذر «تعاليم خطاب القصدية» والسطح «تطبيق تعاليم خطاب القصدية» الدافع للتمكين، سوى طبقة واحدة تقوم بوظيفتي التنقية والدفاع، والتي تعمل ببرمجة خاصة مسيرة من خطاب القصدية لتقويم الأشياء حسب ما هو حتمي، والحتمية في ذاتها أداة تقويم تعتمد على الحدية وثنائية متطرفة تعمل وفق ثيمة بقين صحة الاعتقاد الخاص ووحوب تمكينه، وهذا هو المسار التي تتحرك فيه الأنا المتطرفة وما تنتجه من مجموع.

كما أن الجيتو الذي تربت به الأنا المتطرفة وما نتج عنه من مجموع رسم خط فاصل بين ما هو داخل ذلك الجيتو الممثل لأنموذج قدسي طاهر مُصطفى، وما هو خارجه الممثل لكل ما هو آثم ملوث بالخطيئة شيطاني كافر، وبالتالي فكل فرد خارج الجيتو يجب تصفيته ومحاربته وهو حلّ لكل ممثل خارج من الجيتو دمه وماله وعقيدته وعرضه.

وبالتالي «فثيمة المواطنة» ملغاة بين الجماعات المتطرفة وأفراد المجتمع المنفصلة عنه، فهم بالنسبة لتلك الجماعات آخر وإن تشاركوا معهم في ذات الجنسية والوطن والنظام، ولذلك يستبدلون فكرة المواطنة بفكرة «الإخوان».

والإخوان مصطلح ارتبط بأنصار الأنبياء والرسل، وهو مصطلح يرفع عن الأفراد «قيمة المواطنة» ليستبدلها «بقيمة التطابق الأيديولوجي» وتلك القيمة هي مُلغِية للتطابق المبني على الجنسية أو النظام الحكومي، ولذلك نرى أن الجماعات المتطرفة هي تشكيل من متعدد الجنسيات يجمعها «قيمة التطابق الأيديولوجي القصدي».

وبهذا المبدأ المتصاعد الحركة فهو يدعم توثيق فكرة أن قيمة المرء لا تستمد من كونه مؤلفاً طبيعياً للتطور الإنساني عبر علاقات المعرفة والفكر والإنجاز، وإنكار ذلك يرفع في نظر الأنا المتطرف حق الآخر في حرية اعتقاده وفكره وسلوكه.

لأن قيمة المرء الداعمة من قبل ذلك الجيتو تستمد من خلال ما هو حتمي، الحتمي المعادل للطبيعي، وهذا المنطلق يجعل القيمة تكتفي بذاتها، وتوهم الاكتفاء يضر بقدرة المرء على بناء علاقات يترتب بموجبها المنجز النهضوي والحضاري.

وهو ما يؤدي إلى اختزال قيم الأشياء في ذاتها؛ أي إلزامها بخصائصها الطبيعية «التكوين الأولي للأشياء» يفقد وظيفتها الحضارية؛ أي تعطيل حوافز للإنجاز وبالتالي يلغي قيمتها الرئيسية، فالقيمة ليست تقديراً معنوياً فقط؛ بل هي أيضا تمثيل لواقع إنساني تمنحه صفة التطور ولكن حذف التمثيل مقابل الاكتفاء بالقيمة المعنوية، هو ما يسبب دائماً حالات إلغاء وإبطال العامل النهضوي في حركة الأنا المتطرفة، وهو ما تفعله الجماعات الدينية المتطرفة فهم يقطعون القيمة الدينية عن ممثلاتها النهضوية، باعتبار أن القيمة أحادية النموذج والحدّ التخيلي لها، وهو اعتبار أقام علاقة اشتراطية بين القيمة ونموذجها الأحادي والوحدة التمثيلية التي قد تُعبر عن تلك القيمة، رغم أن تعدد الوحدات التمثيلية لا تضر بأحادية القيمة إنما تتطورها، وهو تطور ترفضه الأنا المتطرفة ومجموعها لِما فيه من إمكانية تفكيك للأحادية المفرطة ويقينها المتيبس.

فتعدد الوحدات التمثيلية لا يضر بوحدوية المضمون، ومأزق الشكل والمضمون عادة ما يمثّل أزمة لأي بيان وموقف متطرفين، ولذلك فمن الطبيعي بالتأثير أن تسعى الأنا المتطرفة إلى إلغاء أي مؤثر مساند لتطور القيمة الدينية والاكتفاء بتمجيد القيمة المعنوية للمفاهيم المرتبطة بسند تاريخي.

إن الجيتو الذي تربت داخله الأنا المتطرفة وما نتج منها من مجموع حول ذلك المجموع إلى «أقلية إثنية» داخل مجتمعها، وهو ما يُفسر لها «إستراتيجية تعدد الجنسيات التي تتصف بها الجماعات المتطرفة».

إن التحول الإثني لتلك الجماعات ليس نتيجة التمركز حول الذات الذي دعمته إستراتيجية الجيتو، بل هو أيضاً حاصل انفصال إرادي عن التفكير الديني الشائع في المجتمع الرئيس، وهو ما يخلق من تلك الجماعات معارضة دينية مستفزة للمجتمع الرئيس، وهذه المعارضة الدينية هي التي تُؤسس تكويناً فكرياً وسلوكياً معيناً عادة ما يتجه نحو التطرف ثم المواجهة المسلحة.

وهو اتجاه يقسم المحتوى الديني الواحد إلى فئات سلوكية، وذلك التقسيم يحمل دلالات الخلاف في تأويل المحتوى الديني ما بين التأويل الأيديولوجي الذي ينتج مدوّنة فقهية متطرفة، والتأويل النهضوي الذي ينتج مدونة فقهية تستوعب القيم الحضارية.

والمواجهة بين مقامي تينك المدونتين غالباً ما يؤدي إلى صراع ديني في المجتمع دفع المدونة الفقهية المتطرفة إلى تأسيس مصطلح «التكفير»، الذي يبيح للجماعات المتطرفة استباحة المجتمع الرئيس ومحاربته، من أجل توحيد نسجنته ليتطابق مع قيمه الأيديولوجية.

إن الجيتو الخفي الذي تدربت فيه الأنا على الفكر التطرفي خلق داخلها فكرة «الاصطفاء» وفكرة الاصطفاء هي فكرة تصاحب أي عزلة.

وفكرة الاصطفاء في ذاتها فكرة دينية تقوم على أن الرب قد اختار محموعة من البشر للقيام بوظيفة تطهير العالم من الشر والآثام وإعادته إلى القالب الأولي للنموذج المقدس، وبذلك يصبح الاصطفاء معادلاً للنبوءة من خلال بسط ومقام فرديين يحددان إطار التجربة الإنسانية وفق إدراكات مخصوصة يتشكّل ضمنها وعي الأنا المتطرفة.

وهذا يعني أن فكرة الاصطفاء وممولها ليست مجرد تصور فلسفي لاهوتي، بل هي مقدرة إجرائية تعيد صياغة التجربة الواقعية وتنظيمها، وإتمام ذلك دلالة على فاعلية انتقال المدركات من مصدر الفكرة إلى وعي الأنا عبر أنشطة موجِهة تتحرك من خلال ثنائية الخير والشر ومسلّم الحقيقة الثابت بالأحادية.

إن خطورة فكرة الاصطفاء تكمن في طبيعة الإحلال والثنائية بين المفهوم والآلية وتحوّل معيارها التصنيفي إلى شمولي مما يعطيها حق المعادل الرمزي للنص المقدس، إضافة إلى مضمون علاقة الحلولية التي تحتويها؛ أي إسقاط الحاجز الفاصل بين المحسوس والغيبي عبر المقابلات بالتجاوز، سواء كان المخلوق مقابل الخالق أو المحدود مقابل المطلق أو الذات مقابل الجوهر أو المستقر مقابل المتجاوز أو القصور مقابل التعالي.

وبذلك فكل مقابلة لدلالة مما سبق تكون علاقة حلول تمنح الأنا المتطرفة «قدسية النبوءة»، وهي قدسية تُوهم بالارتفاع والترقي بهدف التوحدّ مع مصدر البقاء والخلود لممارسة المساكنة مع المركز الرئيس الموجِه للحركة الكونية، وهذا التوحد بالترقي يُكسب الأنا المتطرفة صفة خاصة تُلزم بدلالة الخلود «أنسنة الألوهية». وهو ما يجعل «الأنا المتوحِدة بأنسنة الألوهية» تعتقد أنها تملك الحقيقة المطلقة كامتياز لتلك المساكنة.

- جدة