Saturday 22/02/2014 Issue 429 السبت 22 ,ربيع الثاني 1435 العدد

الشّعر والرواية:الينابيع المشتَرَكة

الناظر إلى تجربتَي الشاعر والروائي ربما يعتقد للوهلة أنهما تجربتان مختلفتان عن بعضهما البعض، باعتبارهما ينحدران إلينا أصلاً من جنسين أدبيّين مختلفَين هما الشعر والرواية. غير أن الذي يُدقّق في الأمر سيرى التشابه الكبير بينهما، وإلى أي حدّ وصل التّماهي بين صورة الشاعر وصورة الروائي. فهما أي الشاعر والروائي يطلاّن على العالم من الموقع نفسه، ويبتسمان الابتسامة الماكرة نفسها، ويتبادلان الأقنعة.

يقوم عمل كلّ من الشاعر والروائي على فكرة تخصيب الحياة الإنسانية على الأرض وتكثيرها، تلك الحياة الجافة البائسة أكثر مما يجب، والموحشة المحصورة بين حاجزي (الزمان والمكان). إنّهما غير مُعجبَين بالهيئة التي صار عليها العالم، ولا بالمصير الذي آلت إليه البشرية. ولذلك فقد راحا يُروّضان قسوة الوقائع بالسّوط نفسه: سَوط الخيال الشّرس، ويصنعان من رمل الحياة الرّخو كائنات وأمكنةً جديدة لها القدرة على الدّيمومة. ولكنهما كلّما وقعا على صورة أو مشهد نفرا كمهرين جامحين باتجاه ما هو بعيد وصعب.

لم تَعُد الرواية مثلما هي القصيدة مجرّدَ سرد لوقائع معروفة، أو تأريخاً لسيرة مفضوحة تتناسل على مرأى من عيون الناس. فقد أصابنا الضّجر من شريط مسلسلنا اليومي، ومن كل تلك الحكايات التي تتحدث عنّا باعتبارنا أبطالاً مقهورين أو منتصرين لا فرق. لقد سئمنا من المرايا التي تتكرر فيها وجوهنا، وصار المطلوب من الروائي كما الشاعر شيئاً آخر مختلفاً: أن يعبث بالتفاصيل المبثوثة هنا وهناك والتي تبدو مثل أشلاء جثة! وأن ينفذَ إلى تلك الأعماق السرانية الفائضة بالدهشة والرؤى المجنّحة.

إعادة البكارة إلى العالم ربما كانت إحدى أكبر المهمات التي تنتظرهما معاً ...القبض على ما هو آسر ومختلف في ركام الأحداث المتشظية. محاورة الوجود، وتتبع المصير الإنساني الذاهب في تلك المنحنيات الخطرة التي تمر بها الحياة. ثمّ إحاطة كل ذلك بموقف ما أو رؤيا هي في واقع الأمر خلاصة المدوّنة السردية أو الشعرية التي تشكّلت على أساسها الرواية أو القصيدة. هنا لا بد من الحديث عن جملة من العناصر التي يقوم عليها البناءان الروائي والشعري:

العنصر الأول يتعلّق باختيار الموضوعة. فليس كل ما هو مطروح من موضوعات وأفكار يمكن أن يكون صالحاً للكتابة. على كلّ منهما (الشاعر والروائي) أن يختار وينتقي موضوعته بالشكل الذي يمكّنه من مقاربة ما هو مفصلي وعميق في التجربة الإنسانية. هنا تبرز موهبة الشاعر أو الروائي في تحويل ما هو واقعي أو فوتوغرافي، باتّجاه ما هو حُلُمي وأخّاذ. كثيرون يمرّون على المشهد اليومي المتداوَل، ولا يحرّكون ساكناً إزاء ما فيه من خفايا وهواجس، ولكنّ الشاعر أو الروائي صاحب الموهبة، يحدّق مليّاً فيه، ويستمع بِوَلَهٍ، إلى التّموّجات المهيبة التي تكتنف أعماقَه، فيشرع قلمه ويكتب. في أحد المعارض الفنيّة، التي تجمع بين التصوير والتشكيل، تجمع عدد كبير من الزوّار أمام إحدى اللوحات الفاتنة التي صوّرها الفنان، فقد كانوا مذهولين بالصّورة اللوحة. كان الكلّ يتساءل عمّا صوره الفنّان. فيما بعد أصيب الجميع بالدّهشة، حين أخبرهم الفنّان أنّ ما صوّره لم يكن سوى مشهد لماء آسن صادفه في الطريق!!

العنصر الثاني يتعلّق بالخيال كطاقة خلاقة، أو كروح تحلّ في الأشياء والكائنات، وتنقلها من معانيها الضيقة المحدودة إلى آفاق الحلم. إنّ هذا العنصر هو من أهمّ العناصر على الإطلاق التي تمنح النصوص الشعرية أو السّرديّة شرعيّتها. في كلا الحالتين نجد المخيّلة العبقرية نفسها هي التي تخترع تلك العوالم المدهشة السّاحرة، وتُغذّي العصب الحسّاس في ذراع الكتابة. هذه المسألة تقودنا إلى الحديث حول ما يُسمّى بشعرية الرواية. نسبة كبيرة من الجمهور تعتبر أن تلك الشعرية يمكن أن تتحقق من خلال اللغة المسرودة. وفي تصوري إن ذلك المستوى من الشعرية هو مستوى أوّليّ ليس له قيمة تُذكر. إنّه محض لعب لا يوجد هناك ما يبرّره. إضافة إلى أنّه يُضعِف البنية الروائية، ويجعل منها مادّةً للتّسلية الآنيّة. إنّ شعرية الرواية هي شيءٌ آخر يتصل بعملية التركيب الكبرى التي ينسجها الخيال لجوانب العمل الروائي، والتي دونها يصبح العمل مجرّد كومة هائلة من الأحداث الخالية من أيّ روح.

العنصر الثالث يتعلّق بالينابيع التي تتغذّى عليها كلّ من الرواية والقصيدة. إنّها الينابيع نفسها، وهي هنا الفنون المؤسِّسة (السينما والمسرح والفن التّشكيلي). ولو أمعنّا النّظر في هذه الينابيع لوجدنا أنّها تتشكّل في الدّرجة الأولى من مرجعيّات بصرية.

قديماً كانت الملاحم الشعرية بمثابة جنس أدبي مُهجّن يتكوّن من الشعر و(الرواية) في تشكّلها الأوّليّ إذا جاز التّعبير. فقد ولد الجانبان من ذات الرّحم، وعبّرا معاً عن المغامرة ذاتها في اشتعالاتها وتشظّياتها على أرض القلق الإنساني.

لا بُدّ من الإشارة هنا أيضاً إلى كتاب مؤسّس في الإبداع العالمي المعاصر وهو كتاب (ألف ليلة وليلة) باعتباره كتاباً مهجّناً أيضاً يقع ما بين الشعر والرواية. إنّ الوقائع الغرائبية المطعّمة بالخيال الخصب في (الليالي) كان لها وقع الزّلزال في وجدان شعوب كثيرة في العالم. وفي تصوّري إنّ الذّاكرة التي سردَتْ هذه الوقائع هي ذاكرة تستند على إرث شعري عظيم. إنّ مدرسة ما يُسمّى (بالواقعية السحرية) التي ظهرت في أمريكا اللاتينية، لم تكن لتولد أصلاً لولا كتاب (الليالي) العجيب، الذي ألهب خيال الأجيال الشعرية والروائية الجديدة، وفتح لها الباب للمغامرة.

بعد ذلك كلّه هل يمكن اعتبار الرواية قصيدة طويلة؟ وبالمقابل هل يمكن اعتبار القصيدة رواية مكثّفة تعتّقَتْ فصولها حتى ظلّ في قعرها هذا العدد القليل من الأسطر؟! أخيراً يمكن لنا الإشارة إلى تلك التّحوّلات الهائلة التي حدثت وما زالت تحدث في أعماق هذا الجنس الأدبي المسمّى بالرواية، فقد وصلت النماذج الروائية الجديدة إلى ما يشبه القطيعة مع النماذج الأولى. لقد باتت هذه النماذج أشبه بقصائد كونية شاملة.

يوسف عبد العزيز - فلسطين Yousef_7aifa@yahoo.com