Saturday 22/02/2014 Issue 429 السبت 22 ,ربيع الثاني 1435 العدد

قراءة في واحات نخيل حضرموت

وادي دوعن أنموذجاً

هذا مقال عن جزء من الجزيرة العربية (حضرموت) التي قال عنها الشيخ حمد الجاسر علامة الجزيرة رحمة الله في مقدمة كتبها في كتاب (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت ) للمؤلف السيد عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف علامة حضرموت ومفتيها رحمه الله

(أتحفني الصديق الحبيب، الأستاذ هادون أحمد السقاف بكتاب يتعلق بتاريخ جزء عزيز من وطننا العربي، من الجزيرة العربية نفسها، يوشك أن يكون مجهولاً أو منسياً، مع ما لكثير من أهله من الصلات القوية بمختلف الأقطار في أنحاء المعمورة). هذا جزء مما قاله الشيخ حمد الجاسر في مقدمته عن الكتاب، وبالفعل أن حضرموت جزء منسي من أبنائها المهاجرين أو من أبناء الوطن العربي الذين لا يعرفون الشيء الكثير عن حضرموت - وفي السنوات الأخيرة قرأنا في الصحف فقط عن هجرة الحضارم ونجاحهم خارج حضرموت ولم نرى أي قلم يتعمق في معاناة حضرموت وأرض حضرموت والإهمال الذي طال زراعة النخيل في تلك المنطقة بل هجران أهلها لها حتى أصبحت مهددة بالموت الكلي - والنخيل كما نعرف هو جزء من زينة وجمال الجزيرة العربية فكيف لنا إهماله وعدم المبالاة به والسبب في ذلك الهجرة المستمرة لأصحاب الأحواض الزراعية.

في حياتي التي قضيتها في وادي دوعن أو زياراتي المتعددة له كنت أراقب حركة النخيل وتموجها في أثناء هبوب الرياح فأشاهدها تتراقص وتدنو رؤوسها أكثر وأكثر من بعضها البعض في صورة سحرية تحرك السكون في الوادي في أثناء شروق الشمس أو في وقت الظهيرة الصامت عندما يعود الناس إلى بيوتهم بعد عمل شاق أو انتظار وجلوس لقتل الوقت في الوادي -فالنخيل في ذلك الوادي قريب منا ومن حياتنا فنجده جاراً لنا في البساتين المجاورة لبيوتنا أو نشاهده ممتداً في واحات الوادي على شكل مستقيم وأحياناً متعرجاً- وفي بعض الأوقات يكسو تلك الواحات وجذور النخيل الحزن بسبب قلة الأمطار التي تجعل النخيل يشرف على الموت ويحزن الإنسان في حضرموت عندما يرى تلك الأشجار تذبل لأنها رفيقة حياته وحياة من سبقوه. وأتذكر أول حزن لتلك الواحات عندما كنت في الحادية عشرة من عمري، فقد جفت الأرض والسماء فلا برق ورعد أو مطر، وبدأت الوحشة تدب في الوادي فالنخل دنى إلى الهلاك فلا زرع ولا حصاد في تلك الأعوام، وبعد ثلاث أو أربع سنوات تقريباً جاءت السيول وسالت الجبال والأودية وانتعش الناس وفرحت الوجوه وتجددت الحياة والوادي بدأت فيه الحياة تدب ويذهب الناس إلى أحواضهم (حيضانهم) فمن يزرع أنواع الحبوب ومن يقوم بعملية (تكريب) (إزالة شوائب النخيل والعناية بها أكثر) والبعض بعد هذه العملية يقوم ببيع سعفها (قصام النخيل) وتبدأ التجارة من النخيل، الحصاد والبيع، والبعض يستأجر الفلاح لحفر حفر حول نخيله لحفظ كمية أكبر من الماء لتروي عطش النخيل بعد فترة طويلة من الجفاف وانقطاع نزول المطر- وكان البعض قبل فترة وخاصة في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين بتبادل السلع فمنهم يأخذ التمر ويعطيه الآخر سلعة أخرى كـ (السخر) المعروف بـ(الفحم) وهذا ما شاهدته في أثناء صغري، ويتم هذا التبادل من قبل ملاك النخيل من أهل الوادي ومن قبل بعض البدو الذين يأتون بقوافلهم بـ(الفحم) وتتم التجارة على هذا النحو والبعض على البيع نقداً ولعل تجارة التبادل بالسلع قد انقرضت ولم تعد موجودة في دوعن. وهناك أسماء تطلق على أحواض النخيل وهذه الأسماء غريبة في تسميتها ويجب الوقوف على تلك الأسماء ومعرفة أصولها ومن أين أتت؟ وماذا تعني؟ وهذه الأسماء قديمة وربما هي أسماء حضرمية قديمة أو حميرية ويتم تداولها جيلاً بعد جيل وكذلك الأحواض التي لها أسماء عدة تختلف من قرية إلى قرية أخرى ففي منطقة (حوف) حوض الحبس وحوض باقي وعندما يذهب الشخص إلى آخر وادي دوعن(ليسر) إلى قرية (مراه) يجد أسماء غريبة مثل حوض عون، وحوض دفاش ، وهذه الأسماء هي لأشخاص أو عوائل قد انقرضوا أو هاجروا مع من هاجر من الحضارم إلى أصقاع الأرض؟ وبقيت الأحواض تحمل أسماءهم إلى يومنا هذا، والسبب الرئيسي في بقاء الأسماء القديمة على مسمياتها نفسها يرجع إلى الوثائق القديمة والمعروفة بـ(الخطوط) التي تحدد ملكيات الأشخاص بحيث تنص مثلاً على أن حوض فلان يحده الحوض المسمى بكذا وكذا- ولهذه بقيت المسميات القديمة على ما هي عليه بعد موت أصحابها منذ مئات السنين إلى يومنا هذا. ومن أنواع النخيل في وادي دوعن نخل البطاط، والجفسوس، وبقلة كبش، والسريع، والقرين الغريب أو المخضاب الذي يعد نوعا نادرا جداً من النخيل ولا تجده إلا بعدد الأصابع في بعض مناطق دوعن، وكذلك الزجاج، والسقطرى الذي جاء من جزيرة سقطرى إلى أودية حضرموت منذ مئات السنين!. ودخول هذه الأنواع من النخيل إلى أودية حضرموت أو دوعن لها فترة زمنية مختلفة فتجد كل نوع من النخيل أقدم من النوع الآخر. وهذا يجب أن يقوم به الدارسون في المجال الزراعي وتوثيقه للمعرفة، ومعرفة تاريخ جزء من الزراعة في الوادي. ففي بداية الألفية الجديدة من القرن الواحد والعشرين قد تم زراعة نوع آخر من النخيل في دوعن ويعد هذا النوع دخيلا على الوادي وخاصة على منطقة (خيلة) التي عرفتها أولاً وهذا النوع يسمى (الروثانة) الآتي من المملكة العربية السعودية والمعروف بجودة ثماره وقد أتى بهذا النوع إلى منطقة خيلة الشيخ محمد أحمد سعيد بقشان وأخوه الشيخ المهندس عبدالله أحمد سعيد بقشان، ومع مرور الزمن سيكون هذا النوع من النخيل سائداً في دوعن لجودة تمره- وكذلك قد قام الشيخ محمد أحمد سعيد بقشان بزراعة أشجار المانجو في أحواض خيلة وأصبحت أشجار المانجو بجانب أشجار النخيل. وربما هذه الفكرة ستعم في الواحات الأخرى في دوعن وسيستفيد منها الأهالي وتبدأ مرحلة جديدة من الزراعة وأنواع الأشجار والثمار في دوعن ويقطف المانجو والتمر معا وتزيد المحاصيل في دوعن لو وجدت اهتماماً كبيراً. ولكل حوض في دوعن سلسلة طويلة من الشركاء ونجد عوائل كاملة مشتركة في حوض لا يتجاوز أحيانا نخيله عشرا من النخلات وهذه الأحواض متوارثة أباً عن جد، ويعد بيعها شيئاً مستحيلاً لكثرة الشركاء، فإن وافق البعض رفض الكثير منهم وتنظر العوائل والأسر الدوعنية إى أحواض النخيل بنظرة عظيمة جداً ويصعب التنازل عنها. وحياة النخيل في حضرموت ووادي دوعن خاصة تمر بمرحلة صعبة بحيث مات الكثير منها في السنوات الأخيرة والبعض منها أُهمل أو في طريقه إلى الموت ولهذا الإهمال أسباب كثيرة منها مثلاً هجرة أصحاب النخيل وإهمالها من الآخرين الذين أمنوا عليها- ولا علم لنا متى بدأ إهمال النخيل في دوعن أو بقية أودية حضرموت وعدم الاستمرار في زراعتها؟ وربما بدأت مراحل الإهمال بظهور النفط في دول الخليج المجاورة وخاصة في المملكة العربية السعودية وبدأت الهجرات المتتالية بعدد أكبر من أبناء حضرموت في منتصف الستينيات وبداية السبيعنيات في القرن الماضي، وفي هذه الفترة ربما بدأت تقل ظاهرة الزراعة في وادي دوعن وبعض الأودية الأخرى في حضرموت. والزائر إلى أودية حضرموت في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي سيرى مزارع النخيل الحديثة ويعد هاري سانت جون فيلبي المعروف بـ(عبدالله فيلبي) أحد الشهود على هذه الخطوة في الزراعة إذ يقول في كتابة بنات سبأ: (مررنا بعد نصف ميل من هذه البقعة عبر البوابة الشرقية لحائط المدينة إلى نخيل القرن ومنطقة الفيلا والتي بدا خلفها بعد ميل واحد حزام واسع لأشجار نخيل مزروعة حديثاً معتمداً كلياً على الري بالسيول. وتعرف هذه باسم حمى سيئون-أو محمية الرعي) (ص224). ولا ننسى أن الجفاف الذي شهدته حضرموت عبر الأزمنة لعب دور الشاهد على موت الكثير من النخيل وخاصة ما قد ذكر في بعض الكتب ومن هذه الكتب كتاب (أيامي في الجزيرة العربية -حضرموت وجنوب الجزيرة 1934-1944م) تأليف دورين إنجرامس حيث نوهت في كتابها عن هذا الجفاف الذي سبب مجاعة في حضرموت والموت للإنسان وبكل تأكيد للنخيل ولبقية الأشجار(أتاح لي سفري مع دورية جيش البادية الحضرمي أن أشهد بدايات ما أصبح فيما بعد مجاعة كارثية. وهناك عدة عوامل أدت إلى حدوث هذه المجاعة أهمها: مرور البلاد بفترة طويلة من الجفاف) (ص234). وهذا الجفاف قد حدث في أثناء الحرب العالمية الثانية مما سبب في موت الإنسان والنخيل، وقد سمعت هذا الحديث من جدتي والدة أبي رحمهما الله عندما قالت لي ذات يوم بلهجتها الحضرمية الخاصة بما يعني ( يا ولدي جاء وقت حتى التمر غير موجود ولا القمح وكنا نبغي تمر أو قمح ولا نحصل عليه) وهي بكل تأكيد لا تعرف زمن المجاعة والجفاف ولكن كانت تحكي على فترة الحرب العالمية الثانية من عام 1939 إلى عام 1945م. والإهمال والجفافي الوادي ليسا السببين الوحيدين عن موت النخيل بل هناك سبب آخر وهي السيول الكبيرة التي لا تدع شيئاً وإلا تدمره وتجرفه، وشهدت أودية حضرموت عدة كوارث بسبب السيول التي جرفت أعدادا كبيرة من النخيل وخاصة الكارثة الأخيرة التي شهدتها حضرموت عام2008م التي راح ضحيتها أراض زراعية كبيرة ولو استمر الحال على ما هو عليه في عدم بناء السدود أو موانع لحماية المناطق الزراعية لأصبح وادي دوعن وأودية حضرموت بلا نخيل بعد عقود من الزمن، حيث يقول عبدالله فيلبي في كتابه (بنات سبأ) عن آثار السيول المدمرة في حضرموت (ولكن الحقيقة هي أن السيول الكبيرة في أودية حضرموت ليس لها حدود أو قيود وقد تكون قاسية مع أي شيء في طريقها) (ص223). فكانت الأراضي الزراعية قبل مئات السنين أكبر من الآن مساحة، ولكن بعد السيول الجارفة المتكررة بدأت تنحسر شيئاً فشيئاً إلى اتجاه الجبل وبدأ مجرى السيل يكبر مع الأيام والسنين بحيث تكبر معه الكوارث في فقدان عدد كبير من النخيل وأراضيها، وقد بدأت منظمة اليونسكو في بداية التسعينيات من القرن العشرين في دعم الأحواض في حضرموت بأسلاك محشية بالأحجار ورصها على حدود الأرضي الزراعية لحمايتها من السيول وبدأت هذه الأسلاك تختفي كلياً لأن السيول أقوى من تلك الأسلاك المتهالكة.

النخيل في حضرموت عامة ودوعن خاصة صورة جميلة من الطبيعة يعجب بها الزوار العرب منهم وغير العرب وقد انبهرت دورين إنجرامز من هذا الجمال وقد كتبت في كتابها المذكور أعلاه عن اخضرار الوادي وكان هذه المنظر مفاجئا لها لأن من يأتي من الغرب يعتقد أن الجزيرة العربية كلها صحراء، وهؤلاء لا يعرفون عن الجمال الكامن في كل بقعة في تلك الجزيرة فحيث تقول: (فجأة لم نشعر إلا وقد وصلنا إلى نهاية الهضبة وأننا نقف عند حافة وادي دوعن المرتفعة كالجدران، بينما كنت جالسة على صخرة أنظر تحتي إلى الوادي الأخضر....) (ص83). وهذا الجمال والاخضرار إذا لم يجد من يعتني به سوف يكون في المستقبل بقايا نخيل وسوف يحزن الحضرمي على مصير نخيله الذي مات، وقد وصل هذا الحزن والقلق للشاعر الدوعني سالم بن سلمان عندما شاهد حالة النخيل في الوادي في حالة يرثى لها فيقول في قصيدته (أحزان نخلة الوادي):

ما الذي صار؟

وماذا ألم بك اليوم

يانخلتي

يانخلة العز والافتخار

إلى أن يقول في منتصف القصيدة:

وما ذاك صار؟

تمر الليالي

وتعد السنين

ولا من يد

تتلمس نحرك

وتتحسس جذعك

ترتب زادك

تمسح عنك بقايا الغبار

ومازالت الأيام والليالي والسنين تمر والنخيل في حضرموت ينتظر لمن يقوم بالاعتناء به والحفاظ عليه من الموت ببطء.

عمار باطويل - جدة batawil@gmail.com