Saturday 22/11/2014 Issue 452 السبت 29 ,محرم 1436 العدد
22/11/2014

«فتنة الخطاب الديني» (1)

يعتبر الخطاب بعد صناعة القصدية من أهم شروط «فاعلية التمكين» فلا يمكن تفعيل التمكين أي تحوله إلى «مشيئة مقدرة» إلا من خلاله لأنه بدوره هو صانع الوعي الجمعي والأفكار المقدسة وهو الذاكرة التاريخية والثقافية لذلك الوعي، ولذا رأيت أن الوقوف عند ماهية الخطاب قبل مناقشة أهميته كفرشة تعريفية تُعين على فهم الصورة بطريقة صحيحة المعقول إلى حد ما.

يرى البعض أن كل نص هو خطاب، لكن وفق ما أعتقد أن ليس كل نص هو خطاب وكل خطاب بالضرورة حامل لكفاية نصية ومًنتِج لعلاقات اتصالية وتفاعلية إجرائية سواء تلك الإجرائية في مستواها الفكري أو السلوكي، ومتى ما أصبح النص قادرا على إنتاج علاقات اتصالية تحول إلى خطاب، لأن قدرة الخطاب على إنتاج علاقات اتصالية لايمكن أن تتحقق إلا في ضوء «ثقة المتلقي بذلك الخطاب».

ويمكن اعتبار الخطاب وفق وظيفته «تكوين سلسلة من المواقف التي تحرض الوعي على إنتاج حالات من التخطيط التفاعلي لتحقيق مقاصد أيديولوجية، مما يجعل الخطاب ممثلا لعقيدة، أو ما يمكن تسميته بالكفاية الاتصالية التي تدفع المتلقي إلى إصدار أحكام و نظم وانساق داعمة لمحتوى الخطاب».

وتلك الإجرائية التي يقودها الخطاب كإنتاج لحالات التخطيط التفاعلي والمساندة اللغوية و تكوين المواقف وإصدار الأحكام والنظم و الانساق لا تُفعّل إلا من خلال اتفاق ضمني بين الخطاب ووعي المتلقي مبنيا على حصول ثقة خاصة حتى تتحقق الكفاية الاتصالية، لأن تلك الكفاية هي الهدف الأولي لقصدية الخطاب لأنها تتحكم في قدرة الوعي على التفاعل والتداول الإجرائيين.

أما الثقة بين الوعي وخطاب القصدية فهي تتربى تاريخيا بين الفرد وذلك الخطاب من خلال العديد من القنوات منها:

1- تقدير الفرد والجماعة لمضمون القصدية وناقلها ومحبة الفرد والجماعة لذلك المضمون وناقلها.

2- المعلومية الثابتة والواضحة لمضمون القصدية وأن لاتتجاوز ما يؤمن به الفرد والجماعة ونزاهة ناقلها والوضوح هنا أيضا يشمل الكفايات اللغوية والبلاغية،فاللغة هي وسيلة نقل الخطاب إلى الجماعة ولذلك لابد أن تكون واضحة ومناسبة للإمكانيات الفهمية للجماعة وهذا ما يُرجّح دوما كفة خطاب القصدية على خطاب النخبة، فكلما ابتعد الخطاب مضمونا ولغة عن الغموض والمتاهة اكتسب ثقة الناس.

3- سماكة الدرع الأمني الذي يحققه مضمون القصدية للفرد والجماعة ومتانة دلالة الشجاعة والبطولة التي يتصف بها ناقلها.

إن الأمن سواء النفسي أو المكاني أو الاجتماعي أو الروحي أو الثقافي هو ضالة الإنسان أنى وجده آمن بمحقِقه، ولذلك يصبر الناس على القمع لأنه يحقق لهم درجة ليست عظمى او مثالية لكنها مقبولة من الأمن، في حين أن التحرر من القمع يدفع إلى الفوضى والفوضى تنزع الأمن وتُشيع الخوف، ولذلك تميل الطبيعة الإنسانية إلى اختيار الأمن بدلا من الحرية، ومن هنا تميل الجماعات إلى الوثوق في الخطاب الداعم للتمسك بعاداتهم وتقاليدهم وطريقة تفكيرهم باعتبار أن الثبات مصدر للأمن والثورة والتغيير مصدر للفوضى والخوف.

4- مستوى المشاركة والتعايش بين الفرد والجماعة والخطاب وناقله، وهذا المستوى من المشاركة هو الذي يدعم شعبية خطاب القصدية ويدعم نجومية ناقلها؛ لأن كلما بُني الخطاب على درجة قربى من واقع الفرد والجماعة اكتسب شعبية.

واكتساب خطاب القصدية صفة الشعبية هي استراتيجية في ذاتها، وتعتمد تلك الاستراتيجية على عدة مرتكزات منها؛ «طبيعة الفئة المستهدفة» إن خطاب القصدية يبني تأثيره بطريقة تدريجية من الأدنى إلى الأعلى ولذلك يركز في أولياته على «فئة الأطفال والمراهقين والنساء»؛ لأن الفئة الأولى فئة الأطفال وعيهم في هذه المرحلة خاضع للتشكّل لذلك تظل عملية البناء الوعيويّ أسهل لأن محذوفاتها تكاد تكون معدومة، وخلفيتها المبنية من قِبل الأسرة تكاد تتطابق مع مضمونات ذلك الخطاب لأن الأسر هم جيل سابق لإنتاج ذات الخطاب.

و وسيلة بناء ذلك الوعي لتلك الفئة أسهل لأنه يعتمد على المركز الانفعالي لدى تلك الفئة، فالتخويف والتهديد هما أدوات تعليم تلك الفئة الإيمان بالعقيدة وتكبر الذاكرة الانفعالية بالتتابع مع وعي تلك الفئة مدعومة بالرسائل الأسرية والمدرسية والطقوسية،

وتظل تلك الذاكرة الانفعالية قنبلة مؤقتة متى ما تمّ شحنها انفجرت تطرفا أو إرهابا أو انتحارا.

ثم تأتي «فئة المراهقين» ومرحلة المراهقة تتصف بمرحلة «اللإيمان» يقودها التمرد على كل شيء ألفه الفرد، والتمرد هي حالة انفعالية أقرب من كونها «حالة استقلالية» فالمتمرِد يفقد خلالها توازن الحسابات العقلية، وفقدانه للتوازن العقلي والمنطقي يقربه إلى «التصديق بالخوارق والأبطال» والبحث عن القدوة النجومية» والاندماج معها حتى تُصبح جزءا منه، كما أن فكرة الخوف من المجهول تكاد تكون محذوفة لدى المراهق لخاصية المغامرة التي يتصف بها المراهقون ، كما أن الحماسة يرتفع منسوبها عند المراهقين حتى تفقد ضابطها السلوكي. لذا فإثارة المراهق عادة سهلة لكن خطورتها عندما تُجنّد للإضرار بالآخر غير محدود.

إضافة إلى أن الإيمان الذي يكتسبه المراهق في هذه المرحلة يتصف باليقينية الكاملة وفي سبيل دعمه والمحافظة عليه قد يضحي بنفسه في سبيل ذلك الإيمان أو قد يتحول إلى قاتل.

والمراهق بهذه الحالة نموذج حسن لاستثمار خطاب القصدية لتجنيد وعيه من خلال استغلال طاقاته الانفعالية الكبرى، مع العلم إن أمر ذلك الاستثمار والاستغلال الذي يتبعه خطاب القصدية غالبا لا تعتريه الصعوبة لأن المراهق كعميل مستهدف لاستثماره من قِبل خطاب القصدية هو مؤسِس وعيه الأولي ولذا يظل ذلك الاستثمار للطاقات الانفعالية للمراهق لتحويله إلى متطرف أو إرهابي أو انتحاري معتمد على «جرعة مكثقة» من المؤكدِات الغالب عليها ما يناسب طبيعة هذه المرحلة كالتركيز على مفهوم البطولة والخلود والنجومية والمُخلِص واستثمار خصائص حماسه إيمانه وصورها، لا إعادة البناء.

قد يعتبر البعض أن المرأة هي الحلقة الأضعف في خطاب القصدية، ولا أظن أن هذا الاعتبار يمثل درجة معقولة من الصحة.

نعم إن المرأة الأكثر جدلا في خطاب القصدية، وكونها تمثل مصدرا زاخرا للجدل يجعلها الحلقة الأقوى في ذلك الخطاب، لأن خطاب القصدية ينظر إلى المرأة من قبيل « إن المرأة قوة ثورية نائمة لعن الله من أيقظها».

إن المرأة ليست كائنا أحاديا إنما هي كينونة في ذاتها.

وتلك الكينونة مصدرها يعود إلى قدرة المرأة على صناعة «الوعي الجمعي» فهي في ذاتها خطاب مستقل أو تستطيع أن تمثل خطابا مستقلا ومساويا بالندية أو المعارضة لخطاب القصدية.

إن الطفل سواء أكان ذكرا أم أنثى يقضي «ثلثا إلا قليلا» من حياته ملازما لأمه؛ أي المرحلة الأهم في تشكيل وعي ذلك الطفل ثم المراهق، ولن يستطيع خطاب القصدية من تحقيق سلطة مشيئة وفاعليته للتمكين لو لجأت المرأة إلى تشكيل وعي إضافي يمثل خطابها المستقل والذي سيمثله بالتالي أبناء المرأة ليُنتج وعيا يتنافس مع الوعي الذي يدعمه خطاب القصدية، أو وعيا معارضا يمثل خطابا المستقل لوعي خطاب القصدية.

ولذلك يجب «محاصرة كينونة المرأة» بخطاب القصدية لتفريغها من قدرتها على «صناعة خطاب مستقل» قد يتنافس أو يتعارض مع خطاب القصدية ولتظل دوما متبوعا لخطاب القصدية و منفذا له وداعما لشيوعه.

و تفريغ تلك القدرة يبدأ من ترسيخ خطاب القصدية لفكرة « هامشية المرأة».

عادة ما تقوم فكرة «الهامشية» على «مبدأ الضعف» ؛لأنه مُشرّع للإزاحة القانونية ،وهذا المبدأ هو الذي يظل يروّج له خطاب القصدية مستغلا التركيبة البيولوجية والتأويلات الفاسدة للنص المقدّس أو بعض النظريات العلمية والاجتماعية والفتاوى الفقهية المتطرفة.

كما تعتمد فكرة الهامشية على «مبدأ الأفضلية» وهنا يدفع خطاب القصدية بهذا المبدأ إلى «ثنائية الرجل والمرأة».

إن «المفاضلة» عادة ما تدعم فكرة الهامشية من حيث الجدية وحصول النمذجة وهما أسهل في صياغة الحجة وأسرع في اقتحام قناعة الوعي الجمعي.

والمفاضلة التي يتبعها خطاب القصدية لا تخلو من «تزوير وانحراف دلالي»؛ إن العلاقة الوظيفية بين الرجل والمرأة علاقة تكامل لا تفاضل كما يروّج لها خطاب القصدية بدليل أن المرأة تستطيع أن تمثل ذاتها خطابيا.

وذلك الترويج يهدف إلى تشيّئ المرأة أي أن تتحول إلى «مجرد شيء» يسهل تهميشه.

و لتأكيد علاقة التفاضل يسعى ذلك الخطاب إلى توهيم المرأة والوعي الجمعي بأنها «متبوع» لولي أمر إجرائي أو صوري، والمتبوع مُقاد دائما بفاعل سواء أكان معلوما أو مجهولا.

وهذه أخطر نقطة هاهنا، إن من يفقد إيمانه بقيمته لا تستطيع أعظم الوثائق الحقوقية أن تقنعه «بإعادة قيمته المهدورة»، وهذا ما فعله خطاب القصدية أفقد المرأة إيمانها بقيمتها وقدراتها ،بل وأصبحت فاعلا ترويجيا لقدسية هامشيتها ومقدّرة بفخر لكونها عنصرا ثابتا في خانة المُفضّل عليه.

- جدة