Saturday 22/11/2014 Issue 452 السبت 29 ,محرم 1436 العدد
22/11/2014

القصيدة المعاصرة في الخليج والمتغيرات (2-3)

ولا يقل تطور النظرية الأدبية والمفهوم النقدي وتبدُّلهما، عن تطور مفهوم المثقف، في التمثيل على المتغيرات الثقافية-الاجتماعية التي تبادلت الأثر والتأثير على تطور القصيدة المعاصرة في الخليج، ومنها. ففي الفترة التي كان الشعر التقليدي سائداً، كان المفهوم النقدي منزوياً في مسافة التقليد والاحتذاء التي تُشَكِّل الصيغةُ النموذجية للقصيدة التراثية أصْلَها والقصيدة التي تقلِّدها في عصرنا الحديث تمثيلَها أو صورتَها التي تترسَّم الأصل وتقتفيه. ولهذا كان حدوث مفارقة بين الصورة والأصل منفذاً من منافذ الانتقاص للقصيدة-الصورة، والزراية بها نقدياً، وهو ما جعل النقد عاملاً من العوامل التي تغذو التقليد وتؤكِّده، ولكنه في الآن نفسه يتغذى على القصيدة التقليدية ويتأكد بها، ضمن سياق ثقافي- اجتماعي أشمل يأخذ هذه الوجهة ويتبادل معها التأثير. على أن النقد التقليدي ومبادئه النظرية التي تنبئ عنها القصيدة التقليدية بما تنطوي عليه من قيم وشروط شعرية، لم يتجسد في منطقة الخليج في أسماء نقدية محددة يمكن الإشارة إليها، أكثر من الممارسة الشعرية نفسها بحكم انطوائها على ناقدها ومتذوقها وقاعدتها النظرية.

ومن غير شك فإن الواقعة الشعرية التقليدية، إشارة إلى زمن لا يتغير، وإلى واقع متوحِّد لا يتغاير، ولهذا فإنها تصبح من المنظور التعبيري ومن المنظور الواقعي شعراً مزيَّفاً لأنه لا يعكس الواقع ولا يصدر عن الذات. وهذا تقويم ينبع من موقف نظري جدّ في المراكز العربية المتقدمة ثم في الخليج بما استحال بالقيمة الشعرية والأدبية إلى معايير «الصدق» و»الذاتية» التي اتسعت بالتقليد فلم يعد ينحصر في محاكاة الشعراء الخليجيين للقدامى، بل يجاوزهم إلى الاتباع للشعراء في مصر والشام والعراق، أولئك الذين أساغوا الرومانسية وتمثلوها واتسعت مذاهبهم الوجدانية فيها. وقد كان التقليد بهذا المعنى أعني تقليد الشعراء في الحواضر العربية الحديثة، هو الصفة التي جمع فيها طه حسين الأدب الفصيح في الجزيرة العربية في مقالته «الحياة الأدبية في جزيرة العرب» (نشرها طه حسين في مجلة «الهلال» في ذي القعدة 1351هـ، ذار (مارس) 1933م، وصدرت في كتاب مستقل، في دمشق، عام 1935م ثم أصبحت فصلاً من فصول كتابه «ألوان» عندما صدر في القاهرة عام 1952م. انظر ذلك وتفاصيل أخرى عن المقالة، لدى حسين محمد بافقيه، طه حسين والمثقفون السعوديون، بيروت: دار المؤلف، 1430هـ/ 2009م، ص ص 21- 22). وهو يرتب هذه التقليدية في الأدب على وصفه للجزيرة العربية بأنها «على حالها القديم تكاد تكون معزولة عن العالم الخارجي» وعلى الوحدة التي تجمعها في التفكير والمعيشة «على نحو ما كان يفكر ويعيش المسلم قبل أن تتوثق الصلة بينه وبين الأوربيين والأمريكيين». أما دلالة اتصاف أدب الجزيرة بالتقليد فهي ماثلة، فيما رأى طه حسين، في بعده كل البعد عن تصوير الحياة في الجزيرة العربية تصويراً صادقاً، لأنه «متكلَّف مصنوع لا صلة بينه وبين الطبيعة الحرة فهو لا يعكس ما يحسه الشعراء والكتاب.. وحظ النفاق فيه أكثر من حظ الصراحة. ثم هو تقليدي لأنه «لا يصدر فيه أصحابه عن أنفسهم وإنما يقلدون فيه أهل الحواضر من المصريين والسوريين والعراقيين». وهذا النوع من الأدب هو في وصف طه حسين يتركز في «الحواضر» خلاف الأدب الذي يسميه «الشعبي» لأنه «يتخذ لغة الشعب أداة للتعبير» فهذا النوع لديه هو أدب البوادي، وهو «قوي له قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صافية لحياة الأعراب في باديتها، وهو في موضوعاته ومعانيه وأساليبه مشبه كل الشبه للأدب العربي القديم الذي كان ينشأ في العصر الجاهلي وفي القرون الأولى لتاريخ الإسلامي».

ولقد كان التصور النقدي في الحجاز –مثلاً- أسبق من ذم طه حسين للتقليد في أدب الجزيرة ومن تعميمه على نوعه الفصيح، فأكثر مقالات كتاب محمد حسن عواد «خواطر مصرَّحة» (1345هـ/ 1926م) موجَّهٌ إلى نقد التقليد وما يتصل به من سكون الحياة وغلبة الأعراف الجامدة والقيم الثقافية والاجتماعية التي تكرس حضور الماضي وتأبى الانفتاح على العصر الحديث والاستيعاب للتغير. وهو نقد يأخذ طابعاً هجومياً ولغة عاطفية لا تخلو من الحدَّة. لكن العواد في كتابه هذا يلفت نظر أدباء عصره إلى «الأدب الجديد» و»الأدب الحر» و»البلاغة العصرية»... الخ في الحواضر العربية وفي الثقافة العالمية، ويعدِّد أسماء الشعراء والأدباء المحدثين العرب والأجانب، فليس يعنيه من التقليد إلا ذلك الذي يتقيد بالقدامى، وهو موضوع النبذ والهجوم لديه. ولذلك فإنه يشير ممجِّداً إلى حركة التجديد في الحجاز، وهي حركة لم يجد العواد بأساً في أن تقلِّد الشعراء العرب في مصر والشام والعراق على النحو الذي بدا عند طه حسين فيما بعد، فالمهم لديه هو بروز أدب مختلف ولهذا فهو يصرخ في أحد مقالات «خواطر مصرحة» تحت عنوان «الأدب في الحجاز، قائلاً»: «كفى يا أدباء الحجاز! ألا نزال مقلدين حجريين إلى الممات.. وأقسم لولا حركة عصرية في الأدب قائمة الآن في الحجاز بهمة لفيف من أحرار الأدب العصري لما عرف العالم شيئاً في الحجاز يدعى الأدب الصحيح!».

الاختلاف –إذن- بين طه حسين والعواد في تعميم التقليد على الأدب في الجزيرة العربية، ينبع من اختلاف الموقف النظري والمنهجي بينهما في حساب القيمة والمفهوم الأدبيين. كان طه حسين يرى الشعر صورة عن الواقع الذي ينتج عنه، وكان واقع الجزيرة العربية ماثلاً لديه في صورة محدَّدة وموحَّدة وصادقة، هي صورة البداوة ومن ثم كان الشعر الشعبي الذي يصورها صادقاً لأنه ينبع منها، أما الأدب في الحواضر فهو مزيّف لأنه يقلد أدباء مصر والشام والعراق، ويمكن أن يكون هذا هو الوجه الآخر للقول إن الحواضر في الجزيرة العربية زائفة لأن البداوة هي حكاية الأصل فيها، فيما الحواضر حكاية الدخيل. ولو استسلمنا لهذه الرؤية التي يلزم عنها الفصل بين الأصيل والدخيل، لما انتهينا إلى أصل مبرأ من الدخيل، ولا إلى دخيل عار عن الأصالة. ولن ننتهي أيضاً إلى شيء في حساب أصالة الأدباء في الحواضر العربية الحديثة، خصوصاً حين نصل بينهم وبين المذاهب الأدبية الأوربية والعالمية، وبينهم وبين أفذاذ الشعراء والأدباء في العالم، وبينهم وبين الأدب العربي القديم، وبين بعضهم بعضاً. ومؤكَّدٌ أن هذه رؤية منغلقة لا تنتمي إلى فكر طه حسين الذي نعرفه، لكنها رؤية معقولة في ضوء النظرية الفرنسية للتأثر والتأثير في الأدب التي ترذل تقليد الأدباء بعضهم بعضاً في داخل اللغة الواحدة، وتمنحه القيمة وترتِّب عليه الإخصاب والجدة والتطور حين يؤدي إلى التأثر بالأجنبي والتفاعل مع منتجات ثقافية خارجية. وهذا الوجه الأخير هو ما نفاه طه حسين عن الأدب في الجزيرة، في مقابل إثباته التقليد للأدباء العرب الذي لا يضيف في المحصلة -في ضوء المبدأ النظري نفسه- قيمة أدبية عربية. والسلطان الأدبي الذي يملكه طه حسين، برز عند عبد الله عبد الجبار، في كتابه «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية» (1959م) حين قال: «وكانت النابتة التي نشأت في الحجاز على صيحات الثورة العربية الكبرى أسرع من غيرها في التأثر بروح التجديد». فالنابتة هنا ليست دلالة أصالة وعراقة، والمعروف أن صيحات الثورة العربية الكبرى جلبت أدباء من الشام وغيرها إلى الحجاز انفعالاً بنداء الثورة على العثمانيين، وذلك لا ينطبق على عديد الشعراء المجددين ذوي الأصول العريقة في الحجاز، كما لا ينطبق التجديد على الشعراء الذين قدموا تلبية لنداء الثورة فقد كان يغلب على أبرزهم الشعر التقليدي.

أما الرؤية التي يبدو العواد داعياً لها ومدافعاً عنها ومنتمياً إليها مع «أحرار الأدب العصري في الحجاز» بحسب وصفه. فإنها تقع بالفعل فيما وصفها به طه حسين من تقليد المصريين والشوام والعراقيين. وهي لا تخرج، بوصفها رؤية تعبيرية ورومانسية على الأغلب، عن المبدأ السياقي نفسه لدى طه حسين، مبدأ الرؤية للأدب بحسب علاقته بالواقع الذي يعبر عنه، واقع المجتمع وواقع الأديب. لكنها –على العكس منه- لا ترى سوءاً أو ضعفاً في أن تقلِّد الأدباء العرب المجددين المعاصرين، فمشكلة التقليد لديها محصورة في العلاقة مع القدامى، تلك العلاقة التي بدا التقليد معها وكأنه اعتقال للزمن وفرض للجمود. إنها –إذن- تصدر عن رؤية متجاوزة لواقعها الأدبي، لأنها تريد أن تحدث اختلافاً معه وتطمح إلى فعل أدبي مغاير. ولم يكن النقض للمفهوم التقليدي مقتصراً على إنتاج القصيدة التي تتمثل مبادئ نظرية ومعيارية مغايرة شعرياً، بل قرن بها حضوراً نقدياً ونظرياً مجسَّداً في أسماء معروفة تجمع إلى الموهبة الشعرية رؤية نقدية ونظرية، تقل ممارستها عند بعضهم وتكثر عند آخرين، شأنهم في ذلك شأن مدارس التجديد الشعري في الوطن العربي وفي العالم. ولذلك كانت هذه نقطة اختلاف بينهم وبين الشعراء التقليديين في منطقة الجزيرة العربية، تميزهم بإحراز مستويات ثقافية واتساع فكري، وبالاضطلاع بدور تقويمي للشعر، والتأهُّل –بقدر اطلاعهم- للتعريف بالمفاهيم النظرية.

- الرياض