Saturday 22/11/2014 Issue 452 السبت 29 ,محرم 1436 العدد

المحاكمة

«محاكمة غادة السمّان لنشرها رسائل غسّان كنفاني»

الحياة تفقد بريقها عندما تحرمك من أن تجد من يشاركك لحظاتها السعيدة، ومن يقاسمك لحظات احتضارك اليومية ، فعندما نجد ذلك الشخص قد نكتب الرسائل ونقوم بتوثيق هذه اللحظات، ليحفظها الزمن ولاتموت، كرسائل غادة السمّان وغسّان كنفاني ، فنشرها كما تعتقد غادة لم يكن نشراً «للعلاقة الخاصة» فمع الزمن يموت الخاص ويبقى العام، أسست بنشرها الرسائل البنية الأولى « لأدب المراسلات» او الاعترافات، هذا النوع مستهجن وغير دارج في مجتمعنا العربي، لما فيه من كشف للذات ومشاعر النفس البشرية، فالقضية ليست كشفا للرسائل فقط بل لكشف الحقيقة امام أقنعة المجتمع، فرسائل غادة لم تنتقص او تشوّه هذا المناضل إنما ظهر بكامل بهائه الانساني بحقيقته الجميلة، في العام 1992 عندما قررت غادة نشر رسائلها العاطفية مع غسّان كنفاتي كشفت عن خطابات « انسانية» اختلط فيها الحب بالوجع والصداقة بالقضايا المصيرية فكانت «كنزاً وارثاً» أدبياً لايمكن تجاهله، ورغم الثورة الهوجاء التي حدثت بسبب نشر الرسائل إلاّ أن غادة أهدتها للذين لم يولدوا بعد أي للتاريخ وللأجيال القادمة، فوجهت غادة نداء عام 1989 عبر الصحف لمن بحوزتهم رسائلها التي أرسلتها لغّسان بتزويدها بها لتحقق حلمها بنشرها معاً لكن لامجيب إلى الآن لهذا النداء القديم.

أحد النقّاد طالب ذات يوم بجلد الشاعر الأمريكي الكبير «والت ويتمان»أمام الناس عقابا على ديوانه «أوراق العشب»الذي كان نقطة انعطاف في تاريخ الشعر العالمي، ويومها اكتفى ويتمان بقوله «توقعت الجحيم، ونلته» هذه هي المرأة غادة نشرت الرسائل وهي توقعت جحيم المجتمع والرجل ومن يجدون الفضيحة في أوراق وسيرة الآخرين فلا إنسان كاملا، لكنْ هنالك مبدعون بالفطرة،ستجد بالرسائل ألم رجل فقد وطنه ورأى في غادة مايمكن أن يعوضه حرمان الطفولة، وحزنا سكن روحه ووطناً حُرم منه وعاش لاجئاً روحياً وليس فقط جسديًا، فكانت غادة وجهه للوطن، لكن بقي الكتاب ناقصاً من دون رسائل غادة فنحن لم نقرأ إلاّ بهاء وجمال غسّان هنا.

أيضا برز في أدب الرسائل علاقة قوية بين مي وجبران خليل جبران امتدت لمدة طويلة من الزمن لم يلتقيا فيها أبداً وعلى الرغم من المسافات الشاسعة التي تفصل بينهما حيث كان يقيم جبران في نيويورك ومي بالقاهرة إلا أنه كان يوجد بينه وبينها الكثير من التفاهم والحب والصداقة، واستمرت المراسلات بينهم لمدة عشرين عاماً حتى وفاة جبران في نيويورك.لم تحاول مي الخروج من الأغلال الخارجية التي تقيد المرأة فقط، بل وجدناها تحاول الخروج من أغلال الذات، فكانت رائدة في محاولة التعبير عن أعماقها عبر الأدب ( الرسائل، المقالة، الخاطرة الوجدانية التي وجدناها في كتبها) أي عبر أجناس أدبية تظهر صوت (الأنا) صريحاً واضحاً، وبذلك استطعنا أن نعايش أعماقها بكل ما يعتلج فيها من عواطف وأحلام وصراعات، غادة ومي وجهان لنفس العملة وهي الشجاعة والإقدام على نشر مايرفض أي رجل نشره أوحتى التفكير باعتباره من صنوف الأدب، فرفضتا أن يعقدا صلحا مع مجتمع مصاب بالرياء والتزوير والخجل من مشاعره، فالحب في مكرساتنا الاجتماعية ضعف يجب تبرئة كل مناظل منه ووصمة عار أن يرتبط المناظل الرجل بأنثى ليس خوفا على سمعة المرأة ولكن خوفا على الرجل من الهزيمة.

«محاكمة حب» هذا الكتاب بالذات من الأحاديث الصحفية استثنائي فهو يضم المحاورات الساخنة التي دارت معها على هامش «انفجار» رسائل غسان كنفاني التي أرسلها إليها.

يضم الكتاب أيضا نصين بخط الشهيد، احتفظت بهما للذكرى وكانا من بعض ما يكتبه في عموده بجريدة «المحرر»، تنشرهما إمعانا في التذكير بضرورة نشر كتابات كنفاني وجمع تراثه بعد انقضاء أكثر من ثلاثة عقود على رحيله.

وتقول غادة السمان بأنها ترى بـ «محاكمة حب» عودة إلى المستقبل وليس رجعة للإضاءة على علاقة عاطفية قديمة، بل إضاءة على جانب نقدي متخلف مُسَيَّس تزداد أمراضه استفحالا في حياتنا الأدبية.

أحلام الفهمي - الدمام