Saturday 24/05/2014 Issue 439 السبت 25 ,رجب 1435 العدد

عامل منجم هو الشاعر

- 1 -

تحت هامش الانعتاق ممّا هو آنيّ ورتيب في الحياة يلجأ الشّعراء عادةً إلى الشّعر، لا ليرمّموا الواقع ويعيدوا إنتاجه في نصوصهم، ولكن من أجل أن يقترحوا عوالم أخرى وأمكنة صالحة للحياة. إنّهم ساخطون على الصّورة المرعبة التي آل إليها الكوكب. إنّهم يحاولون من خلال نصوصهم أن يخفّفوا من أثر الكابوس الذي يسبّبه الوجود الرّخو وحركته المتباطئة الشّبيهة بحركة السّلحفاة. وكأطفال بريئين يلجأون إلى محو المدن والسّاحات الفارغة سوى من السّأم، ويبدأون عملهم المدهش من لحظة عماء جديدة.

على الطّرف المقابل يُكرّس الآخرون طاقاتهم في تسيير دفّة الحياة، ويبذلون قصارى جهدهم في إصلاح الخلل القائم. إنّهم موظَّفو الحياة وعمّالها المجتهدون. فتارةً يبنون البيوت، وتارةً يزرعون الحقول. تارةً نراهم وقد اصطفّوا في طابور الخبز، وتارةً نراهم يتجرّعون شايهم الثّقيل في المقهى. وحين يضجرون يلعبون بالدّيناميت، ويتراشقون بالصّواريخ!

بناءً على ما سبق يمكننا القول إنّ هناك اختلافاً جوهريّاً بين موقف الشّاعر وموقف الآخرين من الكون. ففي الوقت الذي يدقّ فيه الشاعر جدران الوجود بحثاً عن أيّ إجابات ممكنة، يتماهى الآخرون مع الصّورة السّائدة ويُجهِدون أنفسهم في سبيل الحصول على بعض المكتَسبات الصّغيرة.

- 2 -

في وجود هشٍّ ومتصدّع، حيث ترشح المرارة من كلّ شيء، وحيث تهتزّ الرّوح الإنسانيّة مثل قنطرةٍ على حواف العدم يغدو البحث عن حلّ للمأزق القائم أمراً في غاية الأهميّة. وإذا كان هناك من حلول مقتَرَحة في هذا المجال فهي حلول آنيّة ذات أهداف قصيرة المدى. إنّها في أحسن الأحوال لتعمل على تطوير الشّرط الإنساني بنسب ضئيلة. ولكنها في النّهاية لن تكون ذات جدوى. الحلّ الوحيد الممكن هو ذلك الحلّ القادم من جهة الشّعر، تلك الجهة الملغزة والفائضة بالينابيع والتي تشير إلى أرض الأحلام كأنّها سبّابة الأبديّة.

من هذه النّقطة بالذّات يبدأ عمل الشّعر ويتشعّب. وكطفل صقلَتْه التّجربة يواصل لعبه اللذيذ..يصعد تلّة عالية تطلّ على المدينة، يمسك بممحاته ويحرّكها في الفضاء فيمحو ما يشاء من الأمكنة. يصمت قليلاً ثمّ على حين غرّة يفتح جرابه الخاص الذي هو بهيئة حقيبته المدرسيّة القديمة ويطول منه الصّور. صورة وراء صورة يمسك بها ويطوّحها في الفضاء حتى يملأ بها الكون. هكذا تتعدّد الأشياء ويصبح المشهد قابلاً للتأويل، ففي الشّعر تفقد الأشياء خواصّها الأولى وتتبادَل على سطح الورقة مواقعها: يصبح في مقدور حجر أن يفرد الأجنحة ويطير، يستطيع النّجم أن يجلس على قارعة الطّريق، وتستطيع زهرة أن تسطع وأن تنفجر.

إنّ المشاهد الجديدة التي يرسمها النّصّ الشّعريّ هي في حقيقة الأمر أكثر أهميّة من المشاهد الأولى الخاوية المكرّرة. إنّها لتمثّل خلاصة نظرتنا الإنسانيّة إلى الأشياء. أو لِنَقُلْ إنّها المشاهد نفسها التي تبدعها عين الأعمى..تلك العين التي نظُنّ أنّها لا ترى.

من جهة أخرى فإنّ هذه المشاهد مستقلّة تماماً عن أرض الواقع التي نعتقد خطاً أنّها قد شكّلَتْها. النّص الشّعري هنا مستقلّ عن التّاريخ الشّخصيّ للشّاعر، ففي الوقت الذي تتأسّس فيه المعرفة الأوليّة بالأشياء عبر الرّؤية المباشرة لها تتقدّم العين الرّائية في الشّعر لتنسج صورة مختلفة لما تراه. الرّؤية الأولى تحكمها القوانين الفيزيائية التي تحرّك العالم، بينما الرؤية الثّانية هي نتاج حمّى وكوابيس ومهرجان كامل من الأحلام.

النّص الشعري أيضاً له قانونه الخاص ولا يحتمِل أيّ إملاءات من أحد حتى صاحبه الذي كَتَبَه. وكأنّ النّص هنا يكتب نفسه بنفسه. على الشاعر أن يكون هادئ الأعصاب، وأن يستسلم لنزوات هذا النّص. وكما ارتضى الشاعر منذ البداية أن يدخل أرض الشعر تلك الأرض الزّلقة والرّجراجة فعليه أن يتحمّل عاقبة الأمر: فقد يأخذه النّص إلى متاهة لم يفكّر في الدّخول إليها من قبل، وقد يورّطه في مشاكل لم تكن في الحسبان. والأسوأ من ذلك كلّه أن ينقطع به النّص أثناء الكتابة فلا يستطيع إكماله.

النّص الشعري نص صعب وموارب، ولا يمكن له إلاّ أن يكون نتاجاً لعمل شاقّ ولطاقة تخييليّة كبيرة. هذه الطّاقة تتوفّر لدى الشعراء بنسب متفاوتة، وإنّ إطلاقها في الكتابة ليحتاج إلى تدريب مستمرّ لعضلة الخيال. إنّ ظاهرة الحوليّات التي ابتدعها الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى هي ظاهرة في منتهى الصّحّة، هذا مع التّأكيد على أهميّة أن يبقى النّص طازجاً، إذ على النّصّ أن يقدّم نفسه إلى القارئ دون وساطة من أحد. إنّ مثل هذه الصّعوبة التي نلمسها في كتابة الشعر، كما أنّ قلّة الشعر المكتوب في العالم ربّما يؤشّران إلى ما هو أبعد من الصّدى الذي تتركه الحالة المعيشية للشعراء. إنّ أسباب ذلك ربّما تكون مرتبطة بالطبيعة العدمية للوجود، هذه الطبيعة الخالية أساساً من الشعر.

- 3 -

ا بن عدم هو الشاعر، وحامل لواء المأساة بامتياز، يتمرد على الطبيعة الأم باستمرار تلك الطبيعة التي أنجبته خطأ ورمت به في فلواتها الموحشة. كل تلك البحار والمدن، كل تلك السماوات والسجون، كل تلك الشهوات والمجازر، كل تلك الأيام الحامضة والنساء المتبّلات مطلوب منه أن يلخلصها في كراسه الصغير. يا له من كائن معذب يقيم في اللغة، هذا الكهف الضيق والمتسخ، والذي هو أشبه بمنجم حقير مقذوف في قعر العالم. عامل منجم هو الشاعر مطلوب منه أن يلمّع الكلام وأن ينسج من معدنه الصدئ غيمة صغيرة لتجلّل المرأة التي تتمشى تحت شمس الظهيرة. مطلوب منه أن يركن عذاباته اليومية جانباً وأن يتجاوز منفاه وأن يؤجل بكائياته الكثيرة على أصدقائه الشهداء، وأن يكتب نصه كما لو كان في منتهى السعادة!

يوسف عبد العزيز - فلسطين Yousef_7aifa@yahoo.com