Saturday 24/05/2014 Issue 439 السبت 25 ,رجب 1435 العدد
24/05/2014

قراءة في رواية «الزهرة المحترقة» لمحمد بن حسين 1-2

تختلط المشاعر حين نقرأ رواية «الزهرة المحترقة» لمحمد بن سعد بن حسين، فكاتبها كان شابا في السنة الرابعة في الجامعة، وهي أولى تجاربه القصصية، وكان واضحا أنه سيكون روائيا متميزا لو أنه أتبع هذا العمل بأعمال أخرى، فالسرد، والوصف، واستبطان الشخصية، وتسلسل الأحداث، وتحليل المواقف كلها أدوات ظاهرة في هذا العمل الذي كتبه ابن حسين بإيعاز من أستاذه.

رواية ابن حسين ليست من روايات الشيوخ التعليمية من أمثال توأمان عبد القدوس الأنصاري، أو فكرة السباعي، ولكنها تنحو منحى جديدا يقترب من المنفلوطي، ويوسف السباعي. لقد استبق ابن حسين القارئ وتساؤلاته، فأجاب عن سؤال يلح عليه حول مصدر هذه الأفكار والأحداث، والأوصاف أيضا. فالحياة التي عاش فيها الطالب ابن حسين، لا أظنها تسعفه بكثير من أساليب الحياة التي جاءت في النص، إذ ليست موجودة في ذلك الزمن، ولو قارنا بين ملامح حياة القرية التي ذكر الكاتب أن الرياض أقرب إليها من سواها، والتي صورها الكاتب وحياة المدينة لأخذنا بدقة تصويره للمشاهد المنتمية للقرية، وعذوبته:

«وكانت صورة الفاجعة قد أخذت من الشيخ كل مأخذ حيث رجعت به إلى تلك الساعة التي جاء ابنه ليخرج له الماء من البئر ليتوضأ للصلاة..فلما أخرج الدلو وأدلى بيده لأخذها سمع الشيخ صرخة انحدرت الدلو إثرها إلى البئر. علم الشيخ أنها غلبته فأسرع إليه ولكنه لم يكد يصل حتى سمع البئر ترتجف مما وقع فيها. وبدون شعور أخذ يتخبط باحثا عن الرشاء ورفع يده إلى الساقية. فاختطفها فأدرجت به فسقط في البئر ولكنه لم يصب بأذى..

وكان يجيد السباحة فأخذ يعوم باحثا عن ابنه وعبثا حاول الحصول عليه، ولأن الدلو والرشاء قد ذهبا به إلى القعر، ولكنه ظل يعوم ويصيح حتى خارت قواه وأيقن أنه هالك. وكان الناس يأتون إلى الدلو ليتوضأوا منها، فإذا أطل أحدهم ولم ير دلوا ولا رشاء انصرف.فلم ينتبه أحد منهم إلى صوت الشيخ».

وفي مقابل هذه الصور، وهذه البيئة نجد منظر الاتصال بالطبيب حمدي، وارتباط الآخر وهو في المستشفى، وسواها من مشاهد لم تكن موجودة في الزمن التاريخي الذي صوره النص. ومن هنا ندرك أن هذه الصور لم تكن من البيئة بقدر ما هي من ثقافة ابن حسين الذي كان يكثر من قراءة النصوص المترجمة، والنصوص العربية القادمة من مصر والشام، وهي سمة اتسمت بها كل أجيال الأدباء السعوديين في عصر النهضة الأدبية ولم تكن خاصة به.

وبالإضافة إلى هذين العالمين نجد عوالم أخرى في النص الروائي، فملامح الرواية الواقعية كما أشار حسين علي محمد التي نجدها في رحلة «طارق» إلى الرياض، وسيطرة الظلام الدامس لعدم انتشار الكهرباء في ذلك الزمن، والحوار الذي دار بين طارق ومؤذن المسجد الكفيف، ثم الحديث الذي دار بين «طارق» والشيخ الثري الذي أراد أن يصطفيه ليعلم بناته، وهو يبين لنا ما كان يدور في نفوس الناس في تلك الحقبة من حديث عن تعليم الفتاة، ونزاع بين ما يجب لهن، وما يراه المجتمع. هذا الموقف الذي يتحدث عنه ابن حسين في الرياض، هو الموقف الذي تحدث عنه حمزة بوقري في «سقيفة الصفا» حين طلب العم عمر من الفتى أن يعلم ابنته القراءة والكتابة، وشيئا من القرآن الكريم، والعلوم النافعة.

ولعل اللافت للانتباه أن نجد الموقفين متشابهين، فالأول العم عمر»الفرمسوني»، يطلب من الفتى تولي التدريس، ويحاول أن يمهد له الأمر بأن الفتاة مطالبة بما يطالب به الفتى من القيام بأمر الدين، وأن لديها مثل ما لديه من طموحات ورغبة في الحياة مثل ما لديه، ولكن للأسف فإن الحياة لا تمكنها من ذلك لعدم وجود مدارس للبنات مثل البنين، ثم يرفض الفتى الفكرة ويستهجنها، ويرى فيها شيئا من الخروج عن العادات والتقاليد، ويطلب المهلة للتفكير، وكذلك الأمر بالنسبة للفتى طارق الذي استعظم الأمر في أوله، ورأى أن فيه خروجا أيضا عما اعتاده الناس،ودخل في دوامة حوار مع نفسه في التوفيق بين ما اعتاد عليه الناس في أيامه، وبين ما يريده منه هذا الشيخ الذي تبدو عليه سيما الوقار، والفارق بين الأمرين أن العم عمر في سقيفة الصفا كان معروفا بكثرة الأسفار، ومحبة الجديد، ومعرفة اللغات، حتى لقبه الناس بالفرمسوني وكانوا منه على وجل فيما يأخذ ويدع بالرغم أنهم يلجؤون إليه حين تشتد به الحاجة، في حين أن الشيخ «في الزهرة المحترقة» كان شيخا في الخامسة والسبعين من العمر معروفا بتقواه وصلاحه وملازمته للمسجد، ولذا فقد تابعه جاره الثري الذي رغب أن تضم ابنته إلى بنات الشيخ للتعلم من «طارق»:

«إنني شيخ كبير كما ترى وعندي خمس من البنات، وكنت أمني نفسي بأن أعلمهن. فشغلتني عن ذلك الحياة. ثم علقت الأمل على ابني (وأشار إلى الشاب). غير أن أعمال التجارة قد ملكت جميع أوقاتنا، فأخذت أبحث عن شاب أكل إليه ذلك ما اطمأنت نفسي إلا إليك.

واستمر طارق في صمته وإطراقه وأمارات الحيرة تلوح على جبينه الذي بدأ ينضح بالعرق، وكأنه يريد أن ينم عما يعتمل في نفس ذلك الشاب الذي ما زال يحيا في بقايا معركته مع الجوع في تلك الأيام الثلاثة الماضية.

طيفان يتصارعان في مخيلته: طيف الجوع الذي طواه، وطيف اليسر وسعة العيش الذي يعرض عليه الآن وهو متأرجح بينهما لا يدري أيجيب داعي النفس فيطرد الأول ويقرب الثاني؟ أم يجيب داعي المجتمع الذي يعيب على مثله تعليم البنات لأنه من أسرة عريقة قي حسبها ونسبها؟

وبعد مجهود كبير بذله في المفاضلة بين هذين الطيفين، رفع رأسه واتجه إلى الشيخ قائلا: ليس لي من أحد أستشيره ولكني سأستخير الله، فأمهلني إلى الظهر».

ولعل من اللافت للنظر في الروايتين كلتيهما أن الشيخ الكبير المتقدم في السن، هو الذي يسعى لتعليم البنات بالرغم من مخالفته ما تعارف عليه الناس، في حين يأتي الفتيان الأغرار مدافعين عن القيم الناس وعاداتهم، وهو ما يقلب المعادلة المعتادة التي يأتي فيها الشيوخ محافظين، ويأتي فيه الفتيان متطلعين، مما يزيد في تعرية القضية المطروحة في النص وهي «تعليم الفتاة» ولكنه يساوي معها كل قضية مماثلة تنقلب فيها معادلة أصحاب المواقف فيصبح الفتى مدافعاً، والشيخ الكبير مطالباً، أو يصبح العالم مطالبا والجاهل مدافعاً رافضاً ونحو ذلك، وهي قضايا كثيرة يمر بها الناس في حيواتهم.

- الرياض