Saturday 24/05/2014 Issue 439 السبت 25 ,رجب 1435 العدد

أبيض غامق

القدس التي زُرتُها!

نعم القدس التي زرتها دفعة واحدة ومقسطة على استيعابي. مذ كنت طفلة وأنا أعرف القدس من أحاديث جدي وجدتي بصورة ضبابية أحياناً, وأحياناً بصورة ذات بعد رابع أعلى في خيال الأطفال. كانت أحاديثهم البسيطة عن القدس تعني المسجد الأقصى القائم بقبته في وجدان كل مسلم, الذي يهمهم بالضرورة. وعن معاناة الشعب الفلسطيني و و و... لكن القدس التي عرفتها وتسرَّبت وهُرِّبت إليّ من بعض قصائد درويش التي طغت رائحة برتقال يافا والزيتون فيها على رائحة الدم إلا قليلا. والملهاة الفلسطينية لإبراهيم نصر الله وكنفاني وطوقان وغيرهم. ولا حتى قصيدة المقالح. لم تكن قدس الرعب والبندقيات الرشاشة المتربصة, ولا مسيرات الأحجار, رغم أنها تأتي بكل هذا وتقذفه في وجه العالم كنفاية آخر الليل.

لا أدري لِمَ كنتُ أقرأ بنهم وأبحث عن الداخل!؟ حين قرأت كتاب: «مدينة الخسارات والرغبة» لمحمود شقير, القصص القصيرة جداً, التي كان مكانها الطافح بها هو القدس وإنسان القدس.

لا أدري لم القدسُ الآن!؟ هل لأني قرأت الكتاب ووجدت الحياة اليومية التي لا نعرفها عن القدس خارج نشرات الأخبار!؟ ماذا عن «خارج المكان» مذكرات إدوارد سعيد!؟ وملهاة إبراهيم نصر الله!؟ ودرويش كاملاً!؟ وأدب المقاومة بكل تفريعاته!؟ ربما لأن الموت أقل هنا.. رغم أنه كان أكثر في «أعراسٌ آمنة»! القدس التي ظلت نابتة في كل فلسطيني مسلم وغير مسلم وكل عربي آمن بالقضية. تحضر لوحة تبدو كرسومات الأطفال انطباعاً, لكنها «أغمق»!! تحضر رمزاً كاريكاتورياً بأبعاد عميقة كما في الدراسة الأسلوبية التي قام بها الدكتور عمر عتيق, من جامعة القدس المفتوحة. عن ثقافة الصورة وتخللتها صورة القدس بكل المعطيات في ذاكرة الفلسطيني ووعيه. التي اجتمعت بدورها مصادفة مع تلك الكتب -والكتب وحدها- فحتى السينما التي هي نافذة من النوافذ المطلة على مدن الآخرين والآخرين, شبه ضئيلة فلسطينياً إلا بعض الأفلام التوثيقية والمناسباتية بين نكبة وأختها. كلها قادتني ببطء إلى القدس من الداخل. القُدسيَّة, الإنسان, الشارع, الحكايات, روائح مطابخ سيدات القدس, صراخ الأطفال الكُثر هناك, والموت المقابل والسواد.

زرت القدس القديمة والجديدة بكل أبعادها المسجد الأقصى, مسجد عمر بن الخطاب ومئذنة باب الأسباط, وكنيسة القيامة والبنايات الحجرية الطويلة فسيفسائية الملمس. الشرفات المطلية بالأبيض التي تُدَلي أغصان الأشجار كجدائل صبية مقدسية. العتبات العريضة مفتتة الزوايا. الجدران التي ظلت مرَاسم في الهواء لكل الهواة والثائرين على وجع الحياة. رائحة الزيتون المنعشة في الأزقة وفي ثياب السيدات.

مشيت بمحاذاة دليلي السياحي «كريستينا» -إحدى الشخصيات في المجموعة- التي ذهبت إلى حي البستان, وخرجت من بابا الأسباط الذي تقف مئذنته باستعداد لعناقك. ثم نحو كنيسة الجثمانية سيراً بقرب سور المدينة والحي الوشيك الاقتلاع!! ومع «حليم» و»مريم» في حارة النصارى, وبرج القلعة...

تنبعثُ في الطريق زغرودة من هنا ومن هناك. ووحدها الزغرودة المقدسية مُعدَّة للموت والفرح!! فالأعراس هناك لا تنقطع كالجنائز والصلوات. تمر بك الحياة والموت في قاطرة واحدة تهديك «كوفية» فلسطينية و»خبز بزيت وزعتر» وغناء طويل كتطريز جَدَّة بالأحمر والأخضر.. تطريز طويل كخريطة فلسطين. ثم تأخذك لجنازة سريعة بعد ذلك ذات الزغرودة!

** ** **

«يسافرون من الصباح السندسي إلى

غبار الظهيرة, حاملين نعوشهم ملأى

بأشياء الغياب: بطاقة شخصية, ورسالة

لحبيبة مجهولة العنوان:

لا تتذكري من بعدنا إلا الحياة

ويرحلون من البيوت إلى الشوارع

راسمين إشارة النصر الجريحة, قائلين

لمن يراهم:

لم نزل نحيا فلا تتذكرونا»

                                                    درويش

** ** **

وتظل القدس مدينة المفارقات والنضال الذي لا يموت.. والحياة تهادن بغصن زيتون وحمامة كرَّة, وكرَّة تنتفضُ وفي يدها حجر وفي الأخرى مفتاح!

نورة المطلق - الرياض