Saturday 24/05/2014 Issue 439 السبت 25 ,رجب 1435 العدد
24/05/2014

التعليم إلى أين (3 ـ3)

ثانياً: إذا أردنا للورش التعليمية أن تعيش حالة من التألق وارتفاع مستوى التأثير لا بد من تجاوز مكونات الفكر ذي البعد الأحادي المغلق الذي يروم صياغة المنظومة وفق شروط أحادية لا تخفي تجلياتها التحيزية؛ لذا فهو ينفي التعددية، ويخشى التنوع؛ فيضيق ذرعاً بالصوت المختلف، ويتذمر من وجوده، ويتبرم من حضور الرؤى المباينة فلا يستسيغها مهما تعالت حظوظها من الموضوعية، بل يتعاطى معها بوصفها حالة نشاز استثنائية، يتعذر تفهم تشكلها؛ لذا يفترض إدانتها بشكل حاسم!

البنية الذهنية الأحادية بوصفها آلية تفكيرية شوفينية، حدّية القناعات، وأحادية الاتجاه، تحضر بشكل مكثف في كثير من هذه السياقات حتى يعوز الباحث أحياناً العثور على تجليات الفرادة التي يبدو أنها باتت مهددة بالانقراض؛ إذ في كثير من الأحيان، وكنتيجة للوفاء بمتطلبات الشرط الأحادي، ليس ثمة إلا نسخ مكررة متماثلة، تشكلت نتيجة لذلك الضرب من النمط التعليمي الذي يفرض متطلبات غير علمية بفعل ارتكازه على لون من التلقي السلبي الصامت؛ إذ المستهدف هنا ليس له من عمل سوى التأمين على ما يقال والتعاطي معه كحقائق مسلَّمة؛ يتعذر التخلي ولو نسبياً عن إملاءاتها؛ إذ هي لا تقبل إعادة النظر بأي حال من الأحوال!

الفعاليات التطويرية كافة تضمر فعاليتها، وتفقد الجدوى من انعقادها إذا لم يتم تسليط الأضواء بصراحة متناهية على الإشكاليات والتأزمات والمعوقات، وهذا أمر ليس بمقدور البنية الأحادية التفكير فيه، فضلاً عن تجشم عنائه؛ الأمر الذي يحمل على ضرورة العمل على التقليص من وطأة التوجه الأحادي الذي زين له سوء رأيه فرآه حسنا، وفسح المجال أمام لفيف من البنى المتفتحة والمنضبطة بالاشتراطات اللازمة لكي تمارس دورها التصحيحي في هذا المسار. وإذا كان شرط الكفاءة المعلوماتية مطلباً ملحاً، يفترض توافره في كل من يشارك في مثل تلك الفعاليات، إلا أنه وحده ليس كافياً للنهوض بمتطلبات التطوير، وأي قيمة لتلك البنية الذهنية المتذكرة إذا لم يتزامن معها بنية ذهنية متفكرة تحرك الساكن، وتُسائل الراكد، فتتجاوز العرفي نحو المعرفي، وتستثمر ذلك المخزون المعلوماتي في التحوير في تفاصيل الواقع والنهوض بمفرداته كافة؟!

مهما اتسع الحجم المعلوماتي إلا أنه يظل مؤهلاً لفقد رصيد كبير من جدواه إذا كان عبارة عن معلومات متكدسة؛ إنها لا تصبح ذات قيمة في البناء المعرفي طالما أنها فقط تحضر نظرياً - وهو حضور باهت في معظم الأحوال! - وتغيب وظيفياً وإجرائياً، وليس ثمة آليات لتوظيفها على نحو يفضي إلى استحالتها من الإطار الذهني إلى الواقع العيني كحقائق مشخصة تقلل من مساحات الغثائية، وتضيء شيئاً من ملامح تلك العتمة التي تزخر بها أرض الواقع.

المعلومة المجردة مهما تنامت كثافتها تفقد جزءاً كبيراً من قيمتها، وتذبل حيويتها، وتستحيل من تراكم معرفي إلى تورم مرضي، قد يحمل ذويه على ارتكاب ناقض من نواقض الموضوعية، وذلك إذا لم يتم تسخيرها في توجيه حركة الحياة وترشيد أدائها العام، وهو الأمر الذي يتعسر - إن لم يتعذر - وجوده من غير تركيبة ذهنية تتجاوز عقابيل الأحادية فتنفتح على المختلف، وتستثمر القواسم المشتركة ونقاط الالتقاء مع المغاير.

الورش، ومثلها كل الفعاليات الأخرى التي تعقد للتطوير، تتطلب قدراً عالياً من الانفتاح والمرونة والإيمان بضرورة المسارات النسبية، وهذا هو ما يفتقده صاحب التوجه الأحادي الذي شرح للإقصائية صدره، ورضي بها منهجاً طفق انطلاقاً من إيحاءاته يصنف المخالفين. ولا غرو، فالرؤية الأحادية هي بطبيعة تكوينها رؤية منغلقة، تعيش حالة من الانكفاء على الذات. إنها تتحرك في دائرة ضيقة محدودة الخيارات، دائرة تتضاعف فيها مساحات الأيديولوجيا في مقابل التغييب التام للمعرفة على نحو يربك الذات، ويجعلها تعاني من صعوبة فائقة في التعاطي مع المخالف، فضلاً عن الوعي الدقيق للواقع، ووعي طبيعة علاقاته الجدلية المتشابكة.

إنَّ الحاجة باتت ملحَّة، أكثر من أي وقت مضى، لفلترة جادة داخل أروقة التعليم، وتسليط الأضواء على مكامن الخلل في المنظومة التعليمية التي بتنا جراءها أمام هشاشة إنتاجية، ما زال يتكاثر سوادها على نحو لا يتناسب أبداً وهذا الإنفاق السنوي الباذخ الذي يتدفق في جيوب الوزارة!

- بريدة Abdalla_2015@hotmail.com