Saturday 25/10/2014 Issue 448 السبت 1 ,محرم 1436 العدد

نقد مقولات الخطاب الديني-السياسي

4- فساد الإنسان وتأثيمه

(أ)

الإنسانُ في الخطاب الديني-السياسي فاسدٌ ومجبولٌ على الضلال وأثوم، وشيءٌ من هذا التصوّر مصدره تصوّر المعتقدات البدائيّة، والتصوّرات الدينيّة-السرديّة كمثل التصوّر الإكليروسي-التوراتي الذي يرى الإنسانَ مربوطاً ومُجرّماً بفعل الخطيئة الأولى، وهي مسألة يخالفها المتن الإسلامي حينما يجعل المعصية نتيجة حريّة فرديّة ومسؤوليّة واعية وليست طبيعة وإلاّ ما استوجبت التقويم والإصلاح ومنطق العقاب والصواب؛ وهنا أصلٌ في الحرية والمسؤوليّة يحاربه الخطاب الديني-السياسي، الذي ينبي تصوّراته أنّ الإنسانَ مجبولٌ على الإساءة لنفسه إذا ما تُركت له الحريّة لأنّه عدوّ المسؤوليّة ويخشى الوعيَ، فلا يكون عاقلاً إلاّ إذا كان تابعاً، ويختم الخطاب تصوّره حوله الإنسان أنّه كائنٌ نهائيٌّ وعالقٌ في ثبات بيولوجي وأخلاقي، فبينما يقف موقفاً بين الرافض أو المتخوّف من علم التطوّر البيولوجي في الإنسان والحيوان والمادة الكونيّة، وبعضهم يؤيّد التطوّر ويراه أصلاً دلّلَ عليه المتن القرآني في آياتٍ عدّة: (مالكم لا ترجُونَ لله وقاراً، وقد خلقكم أطواراً)، إلاّ أنّ الخطاب يقفُ معترضاً بالتطوّر الأخلاقي والمفاهيمي للإنسان، لأنّ ذلك يجرحُ حُجته في الوصاية والرعاية ويفتح باب الحريّة والمسوؤليّة الفرديّة، وهو موقفٌ لا تستقيم معه حجة، ويسقط بمجرد المعاينة التي تزداد وضوحاً في رؤية التطوّر الأخلاقي والمعرفي الإنساني والتبدّل في الكثير من المفاهيم وأساليب التفكير، كأنّك لتكاد أن تخالف بين هذا الإنسان ودونه من (إنسان) الحضارات ما قبل الماديّة العلميّة (تبعاً لما هو مدوّن في سجلات التاريخ)، ولا يمكن لعاقل التغاضي عن هذا التطوّر إلاّ أنّ يكون مغشيّاً على بصيرته بفعل التبعيّة للإنسان القديم؛ وعلى هذا فإنّ الخطاب كما يقدّم تصوّراته في معالجة الواقع بالاعتماد على تصوّرات بالية وأسس واهية، ليست من الواقع بشيءٍ، بحيث إنّك لا تغلب أن ترى الخطاب يتغاضى عن الواقع وتطوّراته، فإنّه كذلك لا يرى في الإنسان اختلافاً: بين الإنسان الأوّل الذي يؤمن بالأساطير والمستعبد تحت وصايا الكهنوت وبين الإنسان المادي العلمي، فالإنسان الأوّل بقي مأسوراً بأكثريّاته في أغلال الكهنوت بناءً على اكتساب قلّة من (الإنسان) المعرفة والعلم، وأيّ من يكتسب (المعرفة العلم إلى جانب القوّة) فإنّه يسيطر على الكثرة من (الإنسان) إن لم يكن الآخر على معرفة وعلم وقوّة، وهذا حال الإنسان مرحلة بعد أخرى حتّى تطوّرَ وأصبح العلم مشاعاً وليس حكراً، ولم يعد بحاجة إلى وصايا رجال دين-بل ليس بدعاً إن قلنا: إنّ الفلسفة الماديّة العلميّة قضت على الفلسفة التقليديّة جميعة، وفتحت باباً للعالم من واقعه وأغلقت أبواباً طوباويّة شتّى، وشيءٌ من نضوج الإنسان هو أصل في المتن القرآني الذي يؤكّد على: (وعي الإنسان، حريته، ومسؤوليّته) وهي أصول التكليف الإنساني: (إني جاعلٌ في الأرض خليفة)، والتكليف لم يقع على جماعة كحالة طبيعة مستقلّة إنّما على الإنسان بوصفه فرداً، وبوصف الفرد أصل الجماعة؛ هكذا نوجز تصوّرهم للإنسان: (الإنسانُ فاسدٌ وأثومٌ، الإنسانُ يُقادُ ولا يقودُ، الإنسانُ ثابتٌ ولا يتغيّر أو يتطوّر)؛ فإلى أيّ مدى يتوافق هذا التصوّر مع المتن القرآني وتصوّرات الرعيل الأوّل عن الإنسان وحريّته ومسؤوليته؟! وكيف يمكن أن نتقبّل جمود المفاهيم التي كانت فاعلة في القرن السادس للميلاد واعتبارها مفاهيم عابرة للقارات والأزمنة، ولا يعتريها تقادم أو يمسّها تطوّر وتبدّل؛ ولنا مثالاً على أحد المفاهيم البائدة في مقالٍ كتبه الأستاذ عبدالعزيز السماري: «داعش نتيجة أم شذوذ» في صحيفة الجزيرة تاريخ 16 أكتوبر 2014، عن تطوّر مفاهيم الإنسان حيال مسألة الرقّ والعبوديّة وما يتجاوز ذلك مفاهيم الرعيل الأوّل) : http://pda.al-jazirah.com/2014/20141016/ar5.htm

(ب)

حينما يقدّم الخطابُ تصوّرَهُ حول الإنسان، الإنسان بوصفه معصية، بوصفه شرّاً مطلقاً فإنّه يضيّق التصوّر أكثر ولا يُشرعه على الجنسين (الذكر والأنثى) إنّما يحمّل جبلة الخطيئة على طرفٍ دون آخر، وعلى الرغم من كونهما يتماثلان في فعل الخطيئة/السوءة إلا أنّهم يمحون الخطيئة عن طرف ويثبّتونها على آخر إدانة دائمة ومؤبّدة، بحيث تضييق الضيّق إلى حلقةٍ مُحكمة يُحصر فيها الأخلاق جميعةً في (المرأة) بوصفها مصدر الشرّ والخطيئة الأولى.... وليس سهلاً أنّ تفصل المرأة/الأم الحاضنة للحياة عن الحياة، فما يجري على المرأة يسقط ثقله مباشرة على الحياة، فكلّما تناقصت حقوقها تناقصت الحياة عن دورها تأثّراً طبيعيّاً بهذا البتر، فإذا ما اعتبرت المرأة شرّاً فإنّك لا محالة واصلاً إلى تيهٍ وضلالٍ يصوّران الحياة نفسها شرّاً انعكاساً لتصوّراتٍ تشويهيّة تقضي على طبيعة الواقع وتجعله عقيما ً عن إنتاج حضارته وحضوره، لطالما يجري العمل على تعطيل الحاضن الأساس للحياة-حوّاء.

إنّ الغاية الكبرى من مقولة: فساد الإنسان وتأثيمه، وما يخرج منها: عقدة المرأة، الجنس، الجمال، الفرح، النعمة، ينصبّ في خانة قولبة الأخلاق وتعليبها تزويراً لطبيعة الأخلاق النسبيّة وخضوعها لميزان الصلاحيّة، وتحريف مجالات وحقول عمل الأخلاق من الجماعة إلى الفرد لأجل استعباده وسلبه حريّته، وحصرُ الأخلاق في السلوك المحض شخصيّ حتّى إن لم يكن يؤثر على الآخرين؛ وأنتَ حينما تجعل الأخلاق محض شخصيّة وتبعدها عن الآخرين والجماعة فأنت في واقع الأمر تفصل مفهوم الأخلاق عن مفهوم العمل والعلاقات والمصالح وهي الحقول التي أوجبت بوجودها وجوب الأخلاق.

(ج)

حينما يقول شخص معتزل أعزل لا ناقة له في السلطة ولا جمل، أن الإنسان محض شر ومأثوم وآثم، فإنه ينطلق من موقف نقدي ذاتي له وللآخرين بوصفه ساقطا في قلب هذا النقد لا محالة، وهو ما يجعله يعتزل لأنّه سلوكيّاً وانتمائيّاً وطبيعيّاً يدخل ضمن نقد الإنسان في إطار عام، وإلا أزاح طبيعته واشتماله على النقد من المقولة ودخل في الاستثناء بوصف طبيعته غير طبيعة الموصوف بالشرّ والآثم وهو إذا ابتلي بهذا الظنّ الاستثنائي سقط في الجنون وغرور الطهراني والمتعالي، ونظرا لعدم وجود طبيعة أخرى فإنه ينتمي في خروجه للعامة على أنه فوق طبيعي- استثناء- وهذا مدخل في فائدة المقولة بالنسبة للأدعياء والدعاة، وكلّ استثناء لا يُوجب الاقتداء.

أوّل ما يأخذ على هذه المقولة، أنّها تلزم قائلها والمؤمن فيها: أن يكونَ على الوصف الذي تثبّته المقولة؛ لكنّ دُعاة الخطاب يستلّون أنفسهم من هذا التوصيف والجبلة، وهم بذلك يستمرّون في تأكيد ادّعاءاتهم التقديسيّة لأنفسهم/تمثيل (مقولة الحاكميّة لله)، مُعادلة عمل الداعية وقيمته بعمل النبوّة وقيمتها، امتلاك الحقيقة والأخلاق، حصر الصواب لديهم، إباحة أخطائهم كجزء من ضرورة العصمة، والأصل في هذه التصوّرات قائم على الاستثناء، وفاتهم أنّ الاستثناء إذا شاؤوا أن يعتمدوه ليحصّن أفعالهم وتمثيلهم لخطابهم ووصايتهم على الناس وتعاليهم على الدولة، فإنّ الأصل في الاستثناء أنّه لا يستوجب الاقتداء، وأنّه إلى زوالٍ ولا يكون على السليقة والاستمراريّة، وهو ما يخالف طبيقة واقع الإنسان وطبيعته.

والمتأمّل لمفهوم العصمة الذي يلبسونه لتصرّفاتهم يؤكّد أنّهم ما زالوا جزءاً من مفهوم الإنسان القديم، والذي ينزع للشرّ من جهله وجهالته لمحيطه والحياة، فما يمكن لفكرٍ أن يكون أكثر فساداً من فكرٍ يرى نفسه فوق الواقع، ويرى نفسه خيراً وغيره باطلاً!

(د)

يعتمد الخطاب الديني-السياسي على مقولة: (فساد الإنسان) على دلالة كبرى رئيسة: (أنّ الإنسان فاسدٌ، وأنّ الدين الذي يمثّله الداعية جاء ليقوّم فسادَ هذا الإنسان، ويحميه من نفسه ومن الآخرين)، وهذه الدلالة أصل في الوصاية والرعاية والاستزلام، بحيث ينقسم العالم إلى خرافٍ ضالّة لا حصر لأعدادها وعديدها، وثلّة قليلة من ممثّلي الدين الأنقياء والذين وفقاً لسياقاتهم في الحاكمية لله وباقي المقولات فإنّهم لا ينتمون إلى هذا القطيع، بل ينتمون إلى الرعاة، والمسألة لا تختلف عن أيّ تجمّعٍ إنساني بدائيّ يقوم بتقسيم الناس إلى شرائح عدّة، فكأنّ كلّ شريحة مخلوقة من دمٍ ونفسٍ وروحٍ مختلفة عن الشريحة الأخرى.

وأنتَ لتعجبَ لهؤلاء يدّعون انتماءً وإيماناً للمتن القرآني، ولا يخجلون يعلنون فهمهم للآيات التي تمجّد الإنسان وقلبه وتأمّله وقدرته على التفكير والتدبّر، وقدرته على المسؤوليّة، وفي الوقت عينه يعتبرونه مصدر الشر والخطيئة، ولا معنى لهذا التناقض عندهم إلاّ أن تراه على السيناريو التالي: إذا ما ذكروا عظمة الإنسان فإنّهم يرمزون إلى أنفسهم وتوقهم إلى ربط الداعية بالنبوّة كما تجدها في سلوكهم الاستعلائي، وإذا ما ذكروه الإنسان بوصفه شرّاً ومعصيّة فإنّهم يقصدون الناس. وبالتالي فإنّ جدليّة النظام والفوضى والتي يجب أن تقوم السلطات في الدولة بإدارتها بوصف النظام مكوّناً من مكوّنات الدولة يعالج الفوضى بوصفها جزءاً طبيعيّاً فيها، فإنّ هؤلاء الأدعياء يزاحمون النظام الداخلي في أيّ دولة، ويضعون من لدنهم قوانين تحتكم وتؤثّر على الناس بوصف الناس متديّنين، وبوصف السلطات تغضّ الطرف أحياناً عن ممارسة هؤلاء الأدعياء الذين يقومون بمهامٍ ليست لهم، ويقومون بها بطرق إقصائيّة تدميريّة من أهدافها الانشقاق عن الدولة وتفتيتها.

ياسر حجازي - جدة