Saturday 25/10/2014 Issue 448 السبت 1 ,محرم 1436 العدد

سعد البواردي

أستراحة داخل صومعة الفكر

25/10/2014

رقيات

علي بافقيه

98 صفحة من القطع المتوسط

شاعرنا لا يعني جمع «رقية» وإنما جمع «رُقيّة» بتشديد الياء المفتوحة.. وكلتاهما مقصد السائلين عن علاج للقلب أو الجسد حين يعتريه الوجع..

من «نون النخلة» جاءت البداية التي تحمل في طياتها تساؤلاً بريئاً.. لماذا «النون» من بين سائر حروف الهجاء وهو يتحدث عن المرأة.. لماذا لم يأت نون أنثى مثلاً حتى لا تأخذنا متاهة الفهم.. على أية حال هو أدرى بخياره واختياره:

سلام عليهن. يهوى الهواء الرشيق عباءاتهن

فيهفو. ويصفر. ويعتل

بنفسج يؤكل بين أناملهن.. سلام عليهن

الهواء الرشيق يا عزيزي لا يصيب العباءات بالاصفرار والعلة إلا إذا كانت مغبرّة.. يمكن لشاعرنا أن يؤكد المعنى لو أبدل كلمة الهواء بكلمة الهوى التي تشكل الألوان بريشة الأحزان وانفعالات الوجدان.. ولقد أحسنت وقد أبنت حين تقول:

تسير الحدائق بين العليا وبين الملز

فيمشي الهواء النقي الرشيق إلى مشيهن

سلام لهن..

مع التحفظ على الهواء النقي.. من نون النخلة إلى مجنون رقيّة.. ماذا قال لها؟

كالقمح يا حبيبتي

أملودك الرشيق

تمشين يا حبيبتي

فيهجس الطريق

يسير في عباءة وطرحة

غصن من العقيق

قال عن وجهها إنه منازل مطر تضحك في مياهه الغيوم والشجر.. وحين يحل الليل لسواده يطل وجهها قمرا يشيع الضوء في المكان لعلها الرمز لبعض رقياته التي عناها في عنوان ديوانه..

وقال عن يديها أنهما أشبه بفلقتي الرمان، بل جنتين تهبان الرحمة والأمان. بل أكثر من هذا؟

عيناك يا حبيبتي تناسخ الفصول

اقرأ فيهما البقاء واللقاء والأفول

أقول لك.. ماذا بقيت لبقية الجسد..؟!

«لها ما تشاء» عنوان جديد استوقفنا فارس رحلتنا عنده: اجتزئ منه هذا المقطع الجميل:

لها الملكوت الذي يرتقي في غيومي

لها خيمتي، وهوائي، ومفتاح أنشودتي

وجبيني لها، ولها ما تشاء..

لعله من أكرم الذين قرأت لهم شعراً.. كل شيء أعطاه من دون حساب.. هل إنها الصدفة؟ أم بداية تجربة على درب الحب لم ترق بعد إلى درجة الصب؟

«سابقة» محطة أخرى صغيرة قرأناها معاً على عجل.. تقول أبياتها:

عقيقها أم عالقات الرُقى

أيهما أدنى إلى مقتلي؟

منخوبة حطت على حينا

يمثل هذا أم يخيل لي؟

أقول لشاعرنا ما قاله شاعر آخر:

تكاثرت الرقيات على خراش

فيما يدري خراش ما يصيد

والرقيات أحللتها محل الظباء فمعذرة لهذا التصرّف.

غالبه البكاء على حافة الخشبة:

جيء بي من جوى في جفاف البداوة

وجيء بها من خرير على حافة النهر

وددت لو أبدل حافة النهر بضفاف النهر للشبه بين مفردتي جفاف، وضفاف، وحافة النهر لا غبار عليها.

يتساءل مع نفسه:

ماذا تريدين؟ ماذا أريد؟

بعد حين أبدل طاولتي ومكاني بعد حين

أبدل جنتها بجحيم الجهات وجنتها خشبه

سوف أمضي إلى غايتي في جحيم الجهات

ولا شيء لي..

إن الفرق بين جفاف البداوة ونعومة التحضر.. بين الصحراء والنهر.. أنهما لا يلتقيان مهما أبدلت واستبدلت.. دعها حول نهرها.. ودع عنك البكاء على حافة الخشبة.. هذا ما قلته أنت لها:

تشبيهن الكآبة..

وهذا ما قالته لك:

تشبه المطر البدوي على حافة الرمل

«في محارتها تتحرك» قصيدة معبرة لشاعرنا علي بافقيه عبر ديوانه «رقيات» مقاطع منها:

من شهور أشد بطون الإبل وأشق بطون الرمال

إلى امرأة في الجبال البعيدة

إلى امرأة في البحار البعيدة

إلى امرأة في الرمال البعيدة

إلى امرأة في الهواء الرشيق الذي أتنفسه في الحقول البعيدة

ترى من تكون تلك المعشوقة التي شدَّ إليها الرحال جبالاً.. ورمالاً.. وبحاراً.. إنها امرأة تتحرك داخل محارتها. تفتح الباب تضيء الدرب أمام خطوات شاعرنا المرتعدة من شدة البرد.. تدثره بعباءتها.. وينتهي المشهد عند هذا الحد..

«وجوم» أبيات قصيرة يغالبها الصمت المزعج:

آن لهذا القلب أن يغني

أو أن يعود عوداً

آن له أن يرشق الممر والزمبيل

والبيت، والأسفلت والصديق

آن لهذا القلب أن يعودا

كثير هذا الكره على شاعرنا.. ماذا تبقى لقلبك أن تجده في رحلة العودة لا جادة معبدة تسلك بعد أن رشقتها بحجارة الغضب.. ولا دار تسكنها وقد باعدت بينها وبين رغبتك.. ولا حتى مجرد صديق يؤنس وحدتك ووحشتك..

أن لقلبك يا عزيزي أن يتعوّد دروس الحياة ويواجهها بشيء من الجلد والصبر لا أن يعود إلى اللا شيء مهموماً ومهزوماً..

«غيم» واحتمالات ثلاث تراود خياله

ربما على القلب قُبَّرة

قبل أن يغرق القلب

أو ربما كاد يطفو

ويغرق في غيهب الغيم

أو ربما انفرط القلب

مثل صغار الشياه

احتمالات ثلاث قائمة في حسبان شاعرنا تراوح مكانها في خياراته دون حسم.. وفي تردد يزيد من الإحساس بالضياع.. لا أملك إضافة عليه أكثر من مقولة ربما..! لأنني أشاركه حيرته التي ضقت بها دون أن أنجو منها..

على الطلعة الجبلية بين النقا والحجون لا يزال الصغار

يضجون في المدرج الجبلي

يدسون أوجههم في الزوايا.. خفايا. خفايا

وفي القرية الجبلية - في ظاهر الأرض -

لما يزالوا يُحنّون أحجارهم

يقطفون الإناء الصغير النحاسي

يبنون بيتاً من الطين.. ثم يقضونه

تذكّرني قصة هؤلاء بذلك الثري الذي ضاق بثروته إلى درجة الجنون والسفه.. استأجر عمالاً داخل فناء أرضه الجرداء.. أمرهم بالحفر لقاء مبلغ معين وما إن أنجزوا مهمتهم حتى طالبهم بدفن الذي حفروه. وهكذا دواليك تكرّرت الصورة ولكن مع تباين في الحالتين. حالة الصغار في مدرجهم وببرائتهم يبنون بيت أحلام لم يولد بعد.. وحالة من يبني ليهدم.. ويهدم من أجل أن يبني كي يهدم من جديد. في غباء بدلاً من أن يعطيه للمعوزين الفقراء!

«إيقاع» شعري جميل. اجتزئ منه بعضاً من أبياته:

هذا الحصار الذي أفْني يدي به

يأتي ويرتحل لا شيء يكتمل

هذا الدمار الذي ينجو كأن يداً

سحرية تصل، لا شيء يكتمل

هذا دمي واقف يلهو الهواء به

والغرب والحجل لا شيء يكتمل

أنجو بأغنيتي حيناً، وتنفر بي

حيناً أأقفلها؟ لا شيء ينقفل

ثبات الحال من المحال.. في الحياة حضور وقصور.. قوة وعجز.. نجاح وفشل.. نهار وليل.. ونار ورماد ألست القائل:

هذا الأمثل عنقاء العصور دمي

تحت الرمال رماد ثم يشتعل

أخيراً مع شاعرنا المتألق علي بافقيه في رحلة مع ديوانه «رقيات عبر الاستراحة داخل صومعة الفكر مع هذه الأبيات المؤطرة بأريج الخزامى:

غيمة تتدافع والصحراء لا تنام بلا شغف

والرمال الضجيعة مثل طوايا الصبايا تفوح روائحها

والهواء كما هي عادته يتحلّل من شهقة الطين

هذا المساء على غير عادته يشرئب

وفي طيه من طوايا الرمال خزامى ترب.

جميل أن يرسم لنا شاعرنا هذه الصورة لمشهد عشناه وعايشناه. إنها الجدلية بين الآه والإيه بين الشيء وضده. غيمة بمطر وأحياناً بلا مطر. وصحراء تذكّرنا لشهور برمالها.. وهواء بجناحين قارس ببرودته. ولاسع بحرارته.. ومع هذا لا نكرهه لأننا نحب طبيعته على قسوتها.. ونحن إلى ترابه.. وإلى تراثه.. وإلى أهله لأننا أهله.. ولا نكره غيره لأن سجيتنا الحب التي تكره الكره.

 

 

الرياض - ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338