Saturday 25/10/2014 Issue 448 السبت 1 ,محرم 1436 العدد
25/10/2014

كيف تكون العقل العربي

كثير منا حين يرد ذكر العرب قبل الإسلام يتصور في ذهنه أمة بدائية غلب عليها الجهل، وعبادة الأحجار والأشجار، لا تملك أية معرفة أو ثقافة. تلتحف السماء، وتفترش الأرض الجرداء، وتأكل الضب، وتتبلغ باليسير. ولعل من المفارقة الإنسانية والحضارية أن هذه الأمة التي هذه صفتها تنتج أدبا غاية في الرقي يماثل أرقى آداب الأمم المتحضرة، يعبر عن أحلامها، وآلامها وعواطفها وتصوراتها عن الحياة والأحياء. لا شك بعد هذه المفارقة الكبيرة بين الحالين أنه سيأتي من ينكر نسبة هذا الأدب إلى أولئك الأعراب الحفاة العراة رعاة الشاة، فيرى أنه منحول من قبل رواة القرن الثاني بعد أن غلبت المدنية، وتهذبت الطباع، وترقى الفكر بالتأمل والمدارسة، وأن هذا الشعر والأدب لا يمت إلى أولئك بسبب.

على أن القدماء لم يغفلوا عن هذه المفارقة التي بدت عليها الصورة، خاصة مع مقارنة العرب بالأمم الأخرى ذات الحضارة والعمارة، والكتابة والقراءة كالفرس، واليونان، والرومان فردوا ذلك إلى طبع العرب، ونقاء فطرتهم، وصفاء قريحتهم الذي لا يزيدها التعليم والتهذيب إلا غبشا، وتعكيرا لصفوها كما تعكر الحركة الماء النمير في المنبع الصافي،ولذا فإن نقصان العلم والمدارسة والحضارة لم تكن لتضر ذلك العقل الأصيل، وتلك الفطرة السليمة.

يورد صاحب زهر الأدب نصوصا ومقتطفات تدل على القيمة الخاصة للعرب بفضل عقولها الذي لا يفضلها عقل، ولا ينقصه تعليم. يقول ابن المقفع: «أي حكمة تكون أبلغ أو أحسن أوأغرب أوأعجب من غلام بدوي لم ير ريفا ولم يشبع من طعام يستوحش من الكلام ويفزع من البشر ويأوي إلى القفر واليرابيع والظباء وقد خالط الغيلان وأنس بالجان».

ويقول أبو عثمان الجاحظ:»ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السلمية، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء».

بل إن ابن المقفع قد أكد هذه المفارقة صراحة في الحديث الذي يرويه صاحب كتاب الإمتاع والمؤانسة عنه وجعلها دليلا على صحة فطرهم، حين اجتمع ببابه عدد من شرفاء القوم ووجهائهم وجاء ذكر أعقل الأمم، فأفاض القوم بذكر أكثرها عقلا، ولم يصيبوا ما عناه ابن المقفع حتى ردوا الأمر إليه، فقال: إنهم العرب، وجاء في تفسير قوله: «إن العرب ليس لها أول تؤمه ولا كتاب يدلها، أهل بلد قفر، ووحشة من الأنس، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله...

وبعد أن يعدد كثيرا من المناقب والصفات يقول: «كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلمون ولا يتأدبون، بل نحائز مؤدبة، وعقول عارفة؛ فلذلك قلت لكم: إنهم أعقل الأمم لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكرة وذكاء الفهم».

وعلى الرغم أن حديث ابن المقفع الأخير يعود إلى اللغة، وأسلوب المعيشة وطبيعة الصحراء الذي استطاع العربي أن يدرك أسراره، ويوطن حياته له ويجمع المعارف حولها من خلال الملاحظة والتأمل كأسماء النجوم وأسماء النباتات وفصول السنة، والجهات ونحوها ثم بعد ذلك معرفته بالمحامد والمساوئ مما لا يدركها إلا من صحت فطرته، وارتفع عقله ويدخل في مبحث القيم عند الفلاسفة.

إلا أننا لايمكن أن نبعد التأثير السياسي للموقف أجمع في الحديث عن فطرة العرب وصحة عقولهم، وهو ما لمحه القوم الذي كانوا في مجلس ابن المقفع حين قال: إن العرب أعقل الأمم، «إذ تلاحظ القوم وتهامسوا»،وغاظ ذلك ابن المقفع وامتقع لونه، وجعله يسهب في شرح وجهة نظره. وإذا كان البعد الذي لمحه القوم وأشار إليه ابن المقفع نفسه أنهم ظنوا أنه يجاملهم ليتقرب إليهم، فإن هناك بعدا آخر أبعد من هذا وأعمق وإن كان يتصل به، فالعرب هم الأمة الحاكم، ودولتهم غالبة، وليس من المنطق أن يظهروا بصورة أقل من الأمم الأخرى المغلوبة، وأن يكونوا عالة عليهم في طريقة معاشهم، وفي علومهم، وإن كان هذا موجودا عند بعضهم كالفرس مثلا، ولأن العرب لا يحتكمون إلى كتاب مقروء قبل القرآن كما قال ابن المقفع، وليس لديهم معاهد ومدارس كما هي حال الهنود والفرس واليونان، فليس أمامهم سوى أن يكونوا هملا بدوا لا علم لهم ولا فضل أو أن تكون فطرهم سليمة وعقولهم صحيحة وهي التي يفاخرون بها، ولا يمكن أن يكونوا الأولى وهم الغالبون فليس إلا الثانية.

إلا أن هذه الصورة التي تبدو في بعض الكتب ليست هي الصورة الوحيدة التي تبدو في تلك الكتب، فالمصادر القديمة تبين أن جزءا كبيرا من العرب كانوا يسكنون في القرى والحواضر، وأنهم يعملون بالزراعة أوالتجارة كما هي عادة الأمم المتحضرة، وأن لهم ممالك ودولا قامت، ونشأت على أثرها مدنية جيدة واحدة منها في اليمن وهي مملكة كندة، واثنتان أخريان في الشمال وهي مملكة المناذرة والغساسنة. وهذا كله مما سارت به الركبان، ويعرفه البدوي والحضري على طريقة أبي عثمان. ولايتصور العقل أن هذه الممالك وا لدول ستكون خلوا من صور الحضارة والمدنية، والكتابة والتقييد خاصة وأنهم في الشمال يتاخمون الروم والفرس.

- الرياض