Saturday 29/11/2014 Issue 453 السبت 7 ,صفر 1436 العدد

في مفهوم الداعية

2 - العلاقة الارتباطيّة بين الدعوة والنبوّة

(أ)

الوقوفُ على حال الكيان العربي الإسلامي الأوّل - بعد انتقال إدارة شؤونه الدنيويّة من النبي العربي عليه السلام بوصفه قائد كيانٍ يهتم بشؤون الدنيا، إلى الإنسان - أصحابه بوصفهم راشدين وقادرين على تحمّل عواقب الخطأ، وعلى الاستفادة من ثمار الصواب - ضرورةٌ لمعرفة الحدّ الفاصل بين ما يُنسب ابتداعاً في الدين، وبين ما يُنسب ابتداعاً إلى الدنيا ويجب إخضاعه لقانون الصلاحيّة وخلع القدسيّة عنه واستثماره في فهم ضرورات الواقع وتمثيل الأحياء - الخلف لأمور ومستجدّات ومقاصد الدنيا؛ ومجموعة الوقائع التي ذكرناها في (الجزء الأوّل من الموضوع) وقطعنا بانتمائها إلى بدع الدنيا المفتوحة وليس إلى بدع الدين المغلق، هي مسائلٌ لم يقطع الدين أمراً فيها، فمنها ما أُشير لها باللمح والإشارة العامّة وتُرك أمر تفصيلها وتفاصيلها لولي الأمر - المجال الدنيوي - السياسي لحريّة التكليف والتكيّيف السياسي - الخلافة بمفهومها الإنساني الواقعي، ومنها ما لم يأت المتن على ذكرها؛ فالقول: إنّ تلك الأعمال والوقائع هي بدع في الدين، يجري عليها ما يجري على الدين، هو قول يعارض اكتمال الدين التي أعلنها المتن صراحة ووضوحاً في آية المائدة، ونحن أمام مقولتين في البدعة (بدعة الدين أم بدعة الدنيا) نجزم الأخيرة لحجّتين، الأولى: أنّها تتعارض مع المتن، والثانية: أنها تتوافق مع حركة التاريخ المادي العربي الإسلامي، والخلط بين تلك الوقائع ومضمون الدين واكتماله هو أصلٌ في الكثير من المفاهيم الخاطئة التي يستند عليها دُعاة الخطاب الديني السياسي، وما قد تفضي إلى استنتاجات فقهية تحمّل الدين ما لا يتحمّله، وتكسّر في السلم الأهلي قوامه وعروته.

(ب)

حصرت آيات المتن المقدّس وظيفة الدعوة بالنبوّة، وإذا ما عدنا إلى الموجّه له الخطاب في المتن في آيات: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (125) سورة النحل.. {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} (67) سورة الحـج، {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (87) سورة القصص، {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ..} (15) سورة الشورى.. لوجدتها جميعة مربوطة بالنبوّة، وليست مفتوحة لدونه من الأتباع والمؤمنين بالرسالة، ذلك أنّ الدعوة نفسها ليست محلّ ابتداع وفق ما قدّم لها المتنُ، بل هي رسالة ربّانيّة وما على الداعي لها إلاّ التبليغ والتبشير، ولذلك يستلزم الادّعاء باستمرار الدعوة الادّعاء الضمني لوجود وحي بين صاحب الرسالة وبين المبلّغ الوسيط، وهذا الالزام الإلحاقي بين الدعوة للدين والوحي التفت إليه مُبشّرو الديانة المسيحيّة، فإنّك لا تغلب إذا استمعتَ إلى داعية مسيحيّ - مبشّر يزعم باطلاً تلقّيه الدعم من الروح القدس، تأكيداً على استمرار الدعوة إلى ملكوت الله، وهو بذلك ينتبه إلى العلاقة بين الدعوة والتبشير والإنذار وبين النبوّة والوحي والروح القدس، وهو المأزق الذي قد يقع فيه دُعاةُ الخطاب الديني - السياسي (على وعي بذلك أم دون وعي).

الدعوة للدين وظيفة رئيسة في النبوة، فإن افترضَ الداعية أنّ الدعوة مستمرة ولا ينبغي انقطاعها فإنما يضمّ هذا الاافتراض على الاقتضاء: أنّ الوحي لم ينقطع بانتهاء النبوة، وهو ما يخالف المتن صراحة.

الدعوة وظيفة تستوجب من يقوم بها، والهدف في عملها: انتقال الموجّه لهم الدعوة من حال إلى حال ومن فريق إلى آخر، فكيف يصحّ الأمر أن يكون إطلاقاً، إذا كان الكيان بأفراده يتبعون الدعوة، فمن هو المبلّغ؟.. من هو المسوؤل عن الدعوة؟.. صيانتها؟.. والحفاظ عليها من الاستغلال؟.. أفراد من الناس لا سلطة عليهم على الناس؟.. أم ولي الأمر، بوصفه ولي الناس في الدنيا وحامي حماهم ودينهم؟

وعلى الرغم من كون الدعوة هي الوظيفة الأساس للنبوّة وانتهاء النبوّة يقتضي ختم الدعوة، ولكننا لا نستطيع أن نلغي في المقابل أن الدعوة يمكن أن تكون في إطار خارج النبوّة، ويمارسها المؤمنون حُبّاً بدينهم شرط عدم تعارضها مع أمور الدنيا وحقوق الآخرين أو تزاحم الدولة على سلطانها إذا كانت الدولة قائمة على حماية الدين وترعى مصالح الناس والأفراد في حقوقهم الدينيّة والدنيويّة، فاستمرار الدعوة يستوجب من يقوم بها، لا أن تفلت من عقالها، وأزعم أنّ افتراض استمرار الدعوة، لا يمكن بحال من الأحوال أن يتجاوز صلاحيّة وليّ الأمر - رأس الكيان، وهو المسؤول عنه وعن إدارته، ولا تصحّ لسواه أو دونه، وذلك لما تحمله الدعوة عينها من قوّة في إنشاء كيان داخل كيان، إذا تُركت وظيفتها لأفراد داخل الكيان لا يملكون صلاحيّة إدارته.. (كهذا نضع المقولة المنسوبة إلى النبي العربي عليه السلام في إطارها: لا أخاف أن تشركوا بعدي إنّما أخاف أن تنافسوا عليها....) فما خوف على الدين، فأمرُهُ وملكيّته بتقديرٍ من الله وحده، وليست من اختصاصٍ أحدٍ من عباده، أمّا الدنيا فهي محلّ الخلافة - خلافة الإنسان، وعلى الدنيا وقع التكليف والتكيّيف، وهي محل خلافٍ وتقلّب ولا تصلح في إدارتها وعمارتها أعمال ثابتة مكرّرة ومنهج واحد، إنّما من طبيعتّها أنّها متغيّرة وتحتاج دائماً إلى تغيّرات في مناهج إدارتها.

أمّا إذا أخذنا الاحتمال الآخر وهو ما نميل إليه لمطابقته المتن والوقائع: وقلنا بأنّ الدعوة انتهت بكمال الدين ووفاة النبي عليه السلام، فإنّ الدين لا يعود مسألة متنازع حولها بين مختلفي العقائد، ويبقى لكلّ امرئ حريّة معتقده دون تدخّل من آخر، وذلك لا يتم إلاّ تحت حماية كيان دنيويّ قوي لا يسمح لجماعة دينيّة تُلغي جماعة أخرى، كالكيان الذي أسّسه الرعيل الأول: والذي حافظ فيه قدر ما أمكنه، على حريّة المتديّنين في ممارسة معتقداتهم، لأنّه كيانٌ ليس دينيّاً، وهو النموذج الأسبق والتطوّر السياسي الذي قدّمه العربي الأوّل في شكل الكيانات السياسيّة المدنيّة القائمة على الدنيا وحماية الدين والمتديّنين وليس الكيان الديني الذي يدّعي فيه الحاكم قميص التقديس والألوهيّة والذي جاء الدين الإسلامي ليحارب هذا الشكل في السياسي وإدارة شؤون الدنيا بجبّة الدين، كيان دنيويّ لم يُقصِ فيه اليهود، النصارى، الصابئة، وغيرهم، ولم يهدم دوراً للعبادة من معابدهم وكنائسهم وكنيسهم.

(ج)

يعتمد داعية الخطاب الديني - السياسي في خطابه على مضامين عدّة: (أ) مصادرة الحق، تأويلات مصطلح الحقّ والشرعيّة.. (ب) أنّ الدولةَ المستقلّةَ مفهومٌ غربيٌّ أصلُهُ متنافرٌ مع الدين، إذا لم تكن الدولة تابعة للدينِ وتحت وصاية داعية الدين السياسي، وليست مستقلّة عنه وحامية له (ج) الناس فاسدون بطبيعتهم، ويحتاجون إلى مصلح إلى جوارهم يتمثّل في شخص الداعية (د) تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر. (هـ) العنفُ وسيلة ضروريّة في تنفيذ الإصلاح.. ونحن بحاجة دائماً إلى تسليط الضوء على هذه المضامين وعدم إهمالها لطالما لمن تنتهِ ظاهرة انتشار دُعاة الخطاب الديني - السياسي في عموم القنوات العربيّة، والأصل في هذا النقد ومكاشفاته أنّه مقدّم للسلطة السياسية أولاً وللعموم ثانيّة، فالقوّة في الإصلاح تستند إلى التشريع وتنفيذ التشريع ولا تستند إلى إعادة التأهيل تحت تأثير أوهام ما يسمّى الإصلاح الديني: (ولهذا مقال آخر).

إنّ الدعوة إلى الدولة ضرورةٌ مدنيّةٌ للمحافظة على وحدة الكيان: وهي مسؤوليّة متعدّدة الأطراف، أساسُها التشريع وتجريم من يعارضها، وعلى صعيد آخر هي مسؤوليّة الأفراد بعدم الانجرار إلى الخروج على الدولة تحت ادّعاءات مزيّفة تستغل الدين والمتديّنين؛ لقد تُرك لدعاة الخطاب الديني - السياسي أن يمارسوا دعوة إسلامويّة لأناس مسلمين، فكيف يصح القول إنّ دعوتهم للإسلام والناس مسلمين!! أم أنّ الدعوة متورّطة بأجندة انشقاقيّة، عَلِمَ الداعي بها أو جهل مراميي خطابه الذي تورّط به على نيّة وغيرة للدين، (فالتعميم مسألة مرفوضة ولا يقوم عليها بناء، فمن الدُعاة غيارى على دينهم ودولتهم، إنّما المقصد أن النيّة والغيرة وحدها لا تكفي لتحدّ من مخاطر مفهوم الداعية، لأنّ المفهوم نفسه في الواقع يحمل المخاطر التي ذكرنا).

إنَ هكذا مخاطر على الواقع مكنونة في مفهوم الداعية الدينيّة - المتورّط بالجمع بين الدين والسياسة ممّا يجعله قابلاً للتصادم مع السلطة السياسيّة تصادماً انشقاقيّاً في أيّ مواجهة وعند أيّ مفترق طرق - ونحن في معرض حديثنا عن الإسلام - السياسي ومآلاته ومخاطره على مفهوم الدولة العام في الواقع لا يجب التوقّف عند رصد حالات ظاهرة العنف والانشقاق العلنيّة والتغاضي عن البيئة الحاضنة والأسباب الماديّة والتشريعيّة التي تسمح بوجودها، لطالما ينتشر في وسائل عديدة القنوات، وخطابه - وإنّ اختلف في عموميّاته - فإنّ التفاصيل تحسم مدى منازعته للفكرة السلطويّة، والفكرة الارتداديّة عن الدولة ومكوّناتها.

فإلى أي مدى نطابق الواقع إذا قلنا إنّ داعية الديني - السياسي أقرب ما تكون دعوته للابتعاد عن الدولة، والخروج عليها؟!.. فإذا كان خطاب الداعية محض ديني، فالناس على الدين عينه ومنهم من هو أكثر علماً بالدين من الداعية ومنهم دونه، لكن بضاعته من بضاعتهم في نهاية الأمر، فما هو المبرّر لوجوده؟ أمّا أنّ ما لديه مختلف، هكذا تستقيم الدلالة مع الواقع: (فبضاعة الداعية سياسيّة تستغلّ الدين وتلعب على الانتماء)، هكذا يدعو الناس إلى ممارسة الدين - السياسي خلطاً بين الدين والدولة للخروج عليها؛ ويظلّ هناك سؤال المسؤولية، وهو الذي يقع بالنسبة الكبرى على عاتق السلطة في معالجة هذا التمدّد وتجريمه، لطالما بلغ انتشاره حدّاً يؤثّر على وحدة الكيانات والمكوّنات، كما أظهر الخطاب عنفه وتطرّفه في دول الربيع العربي.

ياسر حجازي - جدة