Saturday 29/11/2014 Issue 453 السبت 7 ,صفر 1436 العدد
29/11/2014

أسماء مهمة تكاد تختفي عن الساحة وغيابها يُحدث فجوة لا يمكن ردمها (6)

الفنان أحمد الأعرج ينحت (الشكل).. ظل ونور ألوان وخطوط بإيحاء سريالي

نسعد لنواصل بحثنا في تاريخ الساحة التشكيلية السعودية، ونشعر بالفخر لأن لدينا مثل هذه الكنوز التي رحلت والتي ما زالت باقية في مسيرة هذا الفن. أسماء لا يمكن تجاهلها أو نسيانها؛ فكان من واجبنا أن نعرّفهم لمن لا يعرفهم من الجيل الجديد، مؤملاً أن نكون عبر هذه الصفحة في المجلة الثقافية (أحد إصدارات جريدة الجزيرة) قد قدمنا ولو جزءاً مما يستحق هذا الجيل، الذي تحمل نقص الوعي بإبداعه في مرحلة التأسيس، وحمل على عاتقه مسؤولية المنافسة مع من سبقونا في دول عربية، فتحقق لهم النجاح؛ وأصبحوا أعلاماً في جبين ثقافة الوطن.

أسماء وإبداعات أصيلة في مصادر استلهامها، حملت هوية وطنية، جمع فيها الفنانون رحيق أزاهير الوطن من كل أجزائه، وتأثروا بمن قبلهم من معلمين في معهد التربية الفنية، أو ممن استقوا منهم معارفهم الإبداعية العالمية، لكنهم تمسكوا بالجذور؛ فكان لهم التميز.

أحمد الأعرج المعلم الناجح

كنت ألتقي الفنان أحمد الأعرج في أيام يمكن وصفها بالأيام الأجمل في عصر الفن التشكيلي الذهبي، مرحلة الطموح والوقفة القوية لتأكيد هذا الفن في المجتمع. كان الفنان أحمد أكثر حماساً واهتماماً بتلامذته في المراحل التعليمية؛ فأصبح له جيل من المتأثرين بقدراته. أخلص في مجاله، وأقام العديد من المعارض لكل موقع عمل به، وكان أحدها معرضاً في صالة الأمير فيصل بن فهد، وفاجأ الحضور بمستوى الأعمال التي قام بها طلبته في المرحلة الثانوية؛ فكانت حديث تلك الفترة.

مُقلٌّ في الحضور باقٍ في الذاكرة

كان الفنان أحمد الأعرج من الذين لا يبحثون عن الحضور عبر السبل الملتوية أو الاستجداء تقديراً لذاته ولإبداعه؛ ولهذا جاءت مشاركاته قليلة، وهي حال الكثير من الفنانين الذين غابوا عن الساحة، أو كانت مشاركاتهم قليلة، فجاءت مشاركاته محدودة، منها مشاركته في المعرض السابع لمناطق المملكة عام 1404هـ، وفي المعرض العاشر عام 1408 هـ، كما اختير ضمن نخبة من الفنانين السعوديين الرواد في إصدار توثيقي لمكتب التربية العربي بعنوان (مختارات من أعمال الفنانين التشكيليين في دول مجلس التعاون الخليجي العربي) عام 1406هـ، الذي كتب مقدمته الفنان الراحل أحمد باقر. كما أقام معرضين، أحدهما في الصالة العالمية، والآخر أقامته الجمعية السعودية للثقافة والفنون عام 1414هـ.

خصوصية النحت بالظل والنور

وضع الفنان أحمد الأعرج خط سيره وخصوصيته مع أولى مشاركاته، ولم يحِدْ عنها، ولم يكرر أو يتوقف عند خبرة أو تجربة في أدائه التقني، بقدر ما نرى فيه التحول نحو الإجادة والقوة والقدرة على إظهار العمل، دون تخلٍّ أو بتر لما قبله مهما تعددت الأشكال أو المواضيع، فهو يُبقي تلك الحلقات من الاتصال الحسي بين لوحاته الجديدة مع ما قبلها، دون قفز أو تقليد أو مشابهة.

الشكل في أعمال الفنان أحمد الأعرج يميل إلى أمرين: الحس السريالي والأداء، وإحساس النحت المتمثل في توظيف الظل والنور ودرجات اللون، إلى الحد الذي يُشعر المشاهد بأن العناصر بارزة أو نافرة.

كلمات صيغت بروح اللوحة

كتب الفنان أحمد الأعرج ما يشبه المقال، ويلامس أسلوب التحليل الفني، في الإصدار الذي أُعد لمعرضه الثاني، الذي ركز فيه على جانب استلهام الموروث البصري في الفنون الإسلامية. وجاء فيما سطره يراعه الآتي: “اللوحة الحديثة تنضج وتكتمل بتجربة الفنان الذاتية، وقد يكتشف في العمل التشكيلي متعة الابتكار والبحث والتجريب. ويعيش أفنان الحديث في حوار جدلي مستمر بين ذاته والعالم الخارجي، وفي رحلة بحث دائمة في أعماق الشكل من خلال حس إنساني متميز، تنقله من طبيعته الظاهرية إلى طبيعة جديدة، ومن رؤياه المألوفة إلى رؤية غير مألوفة، تترك للمتأمل فيها أن يحرك خياله، ويبحر في عالم حس متفاعل ومنصهر في بوتقة العمل التشكيلي الجديد. وتتميز اللوحة الحديثة بمرونتها من خلال إخضاعها ضمن معالم وملامح توحي بخصوصية البيئة المحلية والبيئة العربية والإسلامية؛ لتمتد إلى شؤون الفكر والأدب والعادات والمعاملات. فالفن التشكيلي الإسلامي هو بمنزلة قاموس مليء بالقيم الموروثة؛ ولهذا فحري بالفنان العربي المسلم دراسة هذا التراث بعمق، وتوظيفه لأهدافه، واعتبار قيمته الجوهرية ليست فقط في إيقاعه وتجريده كما يزعمون، بل في البحث في جوهره ومكنوناته، وتطويعه للمعتقد والمثل العليا. والفنان العربي المسلم أقدر على إيصال رسالته بصدق وبفهم عميق، وهو مكلف أيضاً بحمل أمانته، ونقل موروثة للأجيال في المستقبل؛ إذ يستطيع الفنان أن يطوع العمل التشكيلي لخدمة العقيدة، والتعريف بها على أنها نظام للحياة، تقوم على دعامات قوية ومتينة من المثل العليا والقيم والمبادئ في الأخلاق والفكر والأدب.

ولهذا، فقد اتجه الفنان المسلم إلى دراسة الطبيعة دراسة تحليلية؛ إذ تناول عناصرها الظاهرية، وصاغها صياغة جديدة، تتفق مع أحاسيسه وأهدافه. وتغيرت تلك المفاهيم لدى الفنان العربي المعاصر؛ إذ واءم بين مشاعره وأحاسيسه التشكيلية وأهوائه ونزواته”.

رؤية تحليلية

وفي موقع آخر من الإصدار، وتحت عنوان (رؤية تحليلية)، يقول الفنان أحمد الأعرج: “إن ما نقوم به من تحليلنا ما هو إلا مدخل بسيط لقراءة التعبير التشكيلي، وسلبه بعض مقوماته، وقد لا نجد فيها ما يوازي مضمونه، وقد يثبت عجزنا في اختيار التراكيب والألفاظ اللغوية المناسبة، وفي الاتجاهات المعاصرة منهجاً تطويرياً في التشكيلي الحروفي؛ وهذا يتطلب لغة مرنة، ونقداً يتعايش مع القضايا التعبيرية الحديثة. والتجربة في هذا الطرح ذات تلخيص أدبي وديني تشكيلي، في مزاوجة حروفية وتداخلات زخرفية، ومحاولة لإيجاد العلاقة بين التجديد والتجريد، ونوازن بين الرؤية البصرية والذاتية بأسلوب إسلامي، ولنقرب مفهوم العلاقة التي نشأت بين الشكل ومضمونه من وجهة نظر تعبيرية جديدة. واللوحات ذات الصياغة الطبيعية تؤكد حقيقة وقوانين فطرية، وتوثق الأصالة والانتماء”.

كلمات تستحق القراءة

نختم ببعض ما جاء في ذلك الإصدار من كلمات تستحق القراءة والنشر، التي وضعها تبعاً لكل لوحة تم تضمين الإصدار بها. يقول الفنان أحمد الأعرج: “تنشأ الألفة بين المضمون والفراغ وبين العناصر الأخرى كالظل والنور، وتقع ضمن تنظيم فلكلوري.

إن أسطورة التراث باتت حقيقة اجتماعية ثابتة، وفي العمل الإبداعي تجسيد الحقائق، وفيه ربط لهذه الحقائق بوقائع زمانية ومكانية، وفيه حصر واختزال مفردات الماضي بكل مقوماته، وتصحيح كثير من المفاهيم، وإخضاعها لقوانين الذوق والاستمتاع”.

هذا هو الفنان الحاضر في ذاكرة الفن التشكيلي الغائب عن الفعاليات المبدع في فكره وثقافته.. أجزم بأنه وجيله وعدداً من رواد البدايات يشكّل غيابهم معضلة وفجوة كبيرة، منحت للفوضى فرصتها.

- monif.art@msn.com