Saturday 31/05/2014 Issue 440 السبت 2 ,شعبان 1435 العدد
31/05/2014

عبد الرحمن الجاسر في قصصه «حياد»:

النصوص ومضات سردية محملة بعبق الذكرى

«حينما لا أستطيع الترنم أو الغناء.. أكتب قصتي القصيرة» بهذه العبارة يقف القاص عبد الرحمن إبراهيم الجاسر ومن خلال مجموعته القصصية «حياد» أمام القارئ محملاً بوهج سردي عذب، ورؤى جمالية حية، ومشاهد وجدانية متواثبة نحو فضاء إنساني يسترشد بصورة الحياة الممكنة، لينهض من جملة هذه الأفكار والرؤى إلى فضاء إبداعي يزاوج فيه بين الخطاب الوصفي للأحداث وتأملاته الوجدانية الحانية على الأشياء.

يستشعر القاص الجاسر في مجموعته هذه أهمية أن تكون القصة وامضة ومعبرة وذات لغة سلسة تضيف شيئاً من بهاء الوصف والإحساس بالموقف الوجداني لأي حكاية يمكن أن يسردها على لسان الراوي المتأهب دائماً إلى قول المراد أو المقصود بأقصر السبل وأجزل العبارات، لتظهر الوجه الآخر للحياة حينما نكون متفائلين رغم المثبطات والمعوقات.

فما القصة الأولى «وجه أبي» في المجموعة هي حالة واقعية لما ذُكرنا سلفا .. حينما استنبط الكاتب من معين قاموس حكاية الإنسان رقيق الوصف، وبساطة الموقف مع تاج الأحبة «الأب» الحاني، ليضفي مشهد الغياب إلى النص لغة حانية ورقيقة، تعكس نماء الفكرة وخلودها في الوجدان لا سيما حينما وقف البطل أو الشخصية المحورية في القصة أمام المرآة ليتأمل وينقب عن ملامح الأب في وجه ابنه الذي لم يتخلَ قط عن رسم حياة وجدانية جميلة نحوه:

«ذات مساء طرق سكوني بنحنحته، ففتحت له طرفاً من روحي.. فتسلل داخلها زارعاً روحاً أخرى بيضاء باردة، تنساب بين أصابعه صافية كنور مائي مشع»

فالنص هنا ومضة حالمة لعلاقة عابرة إلى الذكرى، لكن الكاتب الجاسر برع باقتناصها، ورسم تفاصيلها على أفضل ما يكون الوصف في لغة سردية غير متكلفة.

عناصر السرد في القصص متكاملة البناء وموظفة بأسلوب احترافي مميز، إذ يظهر الحاضن المكاني كعنصر مؤثر على نحو ما ورد في قصة «ويوم آخر» ليجمل لنا الراوي مشهد المكان من خلال هموم مدينة مترامية ترسم ملامحها على نحو ممل، لا يشي بصلح ما معها، حتى تصبح القصة من قبيل المشهد الوامض أو اللقطة التراجيدية المعبرة عن ألم وحسرة على غياب ما هو مميز في حياة المدن.

في القصص إجمالا وإضافة إلى حيز المكان حضور لعناصر السرد الرئيسية الأخرى على نحو الزمن الذي ينقسم إلى مستويين في قصص الجاسر، زمن السرد أو الكتابة، وزمن آخر يتكئ عليه كذاكرة يستدعي من خلالها التفاصيل، أضف إلى ذلك عنصر الحدث المتميز في وضوحه وتركيزه، إذ قل ما تجد في النصوص أحداثاً مترامية أو صراعا أو جدلا مفاهيميا في كل الأحداث، إنما هو من قبيل اعتقال الفكرة وتوظيفها حدثياً بشكل مناسب وهادف، أضف إلى ذلك أن اللغة تأتي سلسة ومنقادة ولا تحمل أي إطناب أو ترهل في النصوص.

وتميل نصوص هذه المجموعة إلى التركيز والاقتضاب حتى تصبح أي قصة مجرد ومضة تتكئ على عامل التخييل واستدعاء الذاكرة لتساعد على رسم المشهد على نحو قصة «ليزر» فيما ترواح القصص بين بناء لغوي دارج، وآخر يميل إلى مشهد الشاعرية المعتدلة.. تلك التي لا تنمق الكلمات كثيرا إنما تُوظِّفُ المشهد كلوحة معبرة عن مضامين الحب والحياة، أو نقل الواقع بشكل متزن، يحافظ على عناصر السرد وبناء فكرة النص القصصي حينما يقوم على الاختزال غير المخل وهذا ما عمد إليه الجاسر في كتابته لهذه النصوص القصصية الشيقة.

بيئة نصوص مجموعة «حياد» تحتكم إلى تنوع مفاهيمي في بناء الشكل العام الذي يوحي فيه الكاتب إلى الراوي لنقل التفاصيل كاملة غير منقوصة وإن جاءت بشكل مقتضب، فالبيئة قد تقول عنها بيئة المدن .. واقعية وفجة ومتسلطة على إنسان بسيط، ينشد الخلاص من منغصات كثير، وقد تكون بيئة القص حالات مغلقة داخل المكان الضيق للحياة المعاصرة على نحو المكتب أو المقهى أو المطعم، وأحيانا في بيئة ريفية، لكنه يستدعيها من الذاكرة.. وفي نصوص أخرى تكون بيئة السرد أو «المحكي» من تفاصيلها متكئة على تراتبية فعل الانتقال أو السفر أو العبور من بيئة إلى أخرى على نحو قصص «الرسالة» و»انتظار» و»لائحة المفقودين»، حيث عمد الكاتب إلى تحريك سلطة المكان من أجل إيجاد قاعدة سردية مقنعة ينطلق منها النص إلى فضاءات وعوالم رحبة تحقق معادلة المتعة والفائدة.

وكما أسلفنا فإن فكرة النص القصصي لدى الجاسر لا تتجاوز محيط ما يرسمه لها .. أي أن النص لا يمكن أن يتمرد، فحتى وإن كان طابعه خياليا وتم استدعاؤه من الذاكرة فهو لا يخرج عن كونه نصا قصصياً محدد الأهداف والاتجاهات سواء طال النص أو قصر .. إذاً فالنصوص في هذه المجموعة حققت مشروعية وجودها وجمالها كنصوص قصصية مكتملة المعالم والبناء.

** ** **

إشارة:

- حياد (قصص)

- عبدالرحمن ابراهيم ا لجاسر

- مؤسسة الانتشار العربي - بيروت - 2014م

- تقع المجموعة في نحو (140صفحة) من القطع المتوسط