Saturday 31/05/2014 Issue 440 السبت 2 ,شعبان 1435 العدد
31/05/2014

قل للزمان ارجع يا زمان

(وهات لي قلب.

لا ذاب ولا حب.

ولا انجرح.

ولا شاف حرمان)..

ناعمةٌ هي الأغاني حين تلامس جراحنا الغائرة الناشفة المتشققة المترمّدة، تحنو عليها بضماد يعيد النبض طارئاً إليها، فتدبُّ فيها الروحُ الفجاءةُ ويصحو الألم.. (فات الميعاد).. كنا نحسبُ حنجرة أم كلثوم وحفلاتها العابرة إلينا صغاراً نحتضن اسطوانات أكبر منّا، قاسية على قلوبنا، تضخّم عذاباتنا وتعمّق انكساراتنا، ثم الآن.. حين نسمعها بمجانية ناضجين، يكاد يقتلنا النضجُ منصهرين داخل ذواتنا التي احتملت ما لا تحتمله طاقاتنا، فنطلبها قانعين بها ملاذا من بعد صدماتنا المتكررة على المرآة؛ نطلبها بياضاً يشبه قلوباً بريئة كانت لنا. وقد تكوّنت فينا من الجنايات الآن، والطعنات جبالٌ أكبر من الحسبان. لم نعد ندري متى كان القلبُ قلباً والذوبانُ ذوباناً والحبُّ حباً والحرمانُ حرماناً.. قبل أن يجني الزمانُ بكبريائه الطاعن الممتد بعيداً يسحبنا مضرّجين بأعداد لا تحصى من الخيبات. وحده الجرح لا يتعدد، يتمدد ولا يتعدد، بل يستفحل أكثر في المجروح، وأحياناً في الجارح والمجروح، تاركاً على الأجساد الواضحة آثاراً تشبه غموض الروح..

(وقسوة التنهيد

والوحدة والتسهيد)

كلها صارت بعيداً.. في قاع الجرح.. ولكنها تبدو وكأنها تتوزع باحتكام في قيعان الجراح؛ تتفرّع آلاماً تسري متسلقة كل الشرايين المنتشرة بانتظام - كالذكريات الأصيلة - على كل المفاصل والحواس.. عن أية مفاصل وحواس تتحدث أيها المنفصلُ عن إحساسكَ بالأشياء الجديدة منذ أن عرفتَ بأن خفقات قلبك لا تدلُّ إلاّ على أن الأشياء القديمة نفسها لا تزال ذائبة سرياناً في أوردتك ولم تنته صلاحيتها بعد؟ فلماذا لا تتمادى في استعادة الاستماع إلى أغانيك القديمة احتفالاً بهذا النجاح..؟!

(قل للزمان

ارجع يا زمان)

ونكرر القول كأنما دونكيشوت صار قدوة لنا فقط في الخلوات. من منا لا يجيد الخلوة الآن والمناداة على الزمان؟ صرنا نصفح عن القول بأن الأزمنة حاضرة تماماً كما الجراح، ونعرف أن لا ثمة غير زمان واحد وجرح واحد وهما كثيران علينا. هما جديران بنا ونحن غير جديرين إلا بأنفسنا الضائعة فيهما ضياع الجمرة بين ريح وماء.. خضراء كانت رسائلنا وكانت ليالينا حمراء.. فما الذي غيّر كل شيء فينا، في زماننا وفينا، إلا الأسماء؟

(ودموع في فراق

ودموع في لقاء)

* * *

يقول الشيخ كمال الدين الدميري، صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى، في تعريفه للإنسان: (هو نوعُ العالَمِ والجمعُ ناسٌ). وقيل: (أصله أنسيان على وزن أفعلان فحذفت الياء تخفيفاً لكثرة ما يجري على الألسنة، وإذا ضغّروها ردّوها لأن التصغير لا يكبّر؛ واستدلوا عليه بقول ابن عباس رضي الله عنهما: إنما سمّي إنساناً لأنه عُهد إليه فنسي).. فيا الله.. يا خالق الكون والأسماء والطبيعة والإنسان: أعطني من معنى مسمّى إنسانيتي قليلاً أحتاجه، في هذا العالم الذي جعلتني نوعه.. واجعلني أنسى تماماً ذلك الزمان الذي أعرف أنه قد راح كما راحت قبله أرواحٌ ولم ترجع. فهل يمكن له الرجوع، ولو قليلاً، إذا ناديتُ وقلتُ له ارجع؟!

** ** **

* العنوان والمقتطفات الغنائية من رائعة (فات الميعاد) لكوكب الشرق، ألحان المبدع بليغ حمدي وكلمات الشاعر مرسي جميل عزيز.

- الرياض ffnff69@hotmail.com