Saturday 31/05/2014 Issue 440 السبت 2 ,شعبان 1435 العدد

المسألة الثقافية السعودية

وأد الحداثة العلمانية (6)

(1)

ليس سهلاً عند قراءة أيّ مسألة إنسانيّة سياسيّة وثقافيّة معلّقة أن تفلت من قراءة تراكماتها التاريخيّة منذ نشأتها، والعثرات التي أخفقت بسببها والنجاحات التي جعلت المسألة لم تزل معلّقة ولم تطو إلى الأبد؛ والمسألة الثقافيّة السعودية ليس بمنأى عن هذه المعضلة، فليس يسيراً تجاهل تاريخيّة المسألة نفسها ومراحلها، بيد أنّه في المقابل ليس من المستساغ تقديم قراءة تحليليّة تاريخيّة على حلقات في المجلة الثقافيّة، نظراً لطبيعة البحث في المسألة ومساراته التي قد تتعرّض لتقلّبات في النتائج أثناء التفكيك والمقارنة بين مرحلة وأخرى وما بقي منها أثراً موجباً أو نجم عنها أثراً سالباً، وهي طبيعة أيّ بحث في طور الإعداد، خاصة لمن يبحث ولا يضع في نصب عينيه نتيجة يريد إثباتها، والمحاججة على تاريخيّتها وواقعيّتها فهذا مسلك يتضمّن أجندة فكريّة وإقصائيّة لسنا حريصين عليها ولا نؤيّدها، وعلى ذلك فإنّني أوجزُ في تاريخيّة المسألة ما اعتقده مناسباً لروح المقالة، وذلك بوضع خطوط عريضة عنها وما نجم عن تلك الفترات من تراكمات ما زالت معلّقة وتحظى بتأثير على الواقع، وهذا التقسيم للمسألة الثقافيّة (قد نختلف أو نتّفق عليه من جهة سبب التقسيم وحجّته)، لكنّه آلية وتقنية أوليّة لإظهار التراكمات التي أبقت على المسألة بين الظهور والخفاء وما نحمل تبعاته اليوم: (1. فترة تأسيس الدولة، المدينة، العقد الاجتماعي: بين الثقافة العلميّة وبين ثقافة الأولويّات. 2. فترة الـتأثر بالمحيط العربي ومسائل: (الدستور، القوميّة، اليسار، اليمين). 3. فترة الحداثيون والصحويّون: 4. فترة توزير الثقافة: مسائل الإصلاح ونقد الذات. 5. فترة بروتستانت الثقافة وقراءة الدين ومشاعيّة المعرفة).

تحتاج هذه المراحل إلى رصد آثارها على الواقع، ورصد ما تبقّى من خطاباتها ومقارنته بممثّلاته في الواقع، فما بقي منه أثراً صالحاً يُعتبر جزءاً من تفاصيل تطوّر وعي الإنسان السعودي، أو أثراً فاسداً فإنّه يمثّل جزءاً من تفاصيل تضخّم التطرّف السعودي، كأسباب غياب الحريّة ونشوء التقية الثقافيّة، تطرّف الثقافة والشكّ والتوجّس من المثقّف، استيراد القضايا الخارجية، الحداثة العلميّة والحداثة الأدبية، وهذه المقارنة لا بد أن تنظر إلى موقف السلطة، وموقف التيار الدينيّ، وعلاقة المثقّف في كل مرحلة بهذين الثنائيّين، منفصلين أو متّصلين.

(ب)

قد يُظنّ أنّ مصطلح (الحداثة) أوّل ما ظهر في الثقافة السعودية كان في الثمانيّنيات، وهذه مسألة مرتبطة باختلاف التعريب، وليست مرتبطة بواقعيّة مدلول الحداثة أو المعاصرة أو العصرنة المرتبط بالعلم والعلمانية وحرية البحث وحرية إعلان نتائجه وإن خالفت المنقولات الدينيّة والفلسفيّة أيضاً. لذلك فإن تغيّر تعريب المصطلح لا يعني عدم ظهوره، كما لا يعني عدم وجود طائفة من المثقّفين والأكاديميين الذين عملوا ودعوا بمضامين علمانيّة وحداثيّة دون الالتفات إلى أهميّة الاتفاق أو ضبط تعريب المصطلح في حال تعدّد تعريبه، وهو اختلاف لم يقف على هذا المصطلح دون سواه، فلقد تجد الكثير من المصطلحات مرّت في العديد من التعريبات حتى انتهى بها الحال إلى غلبة لفظة على أخرى جرياً على ألسنة المنشغلين بها دون أسباب متّفق عليها.

إنّ القول بعدم وجود دعوة حداثيّة بمدلولاتها العلميّة والماديّة والصناعيّة، بوصفها منتج عصر العلم والعلمانيّة قبل ظهور مصطلح الحداثة وتضخّمه على رغم محصوريّة اهتماماته الشعريّة في الثمانينيّات، هو كالقول بعدم وجود بحور الشعر قبل اصطلاحات الخليل ومسمّياته للبحور الشعريّة، أو كالقول بعدم وجود (نحو وقواعد) عند العرب قبل كتاب سيبويه؛ إنّ الخلط أو تعدّد تعريب مصطلحات: (Modernity, Modernization, and Modernism) بين الحداثة، والحداثيّة، والعصرنة، والمعاصرة، والتحديث، التحرّر، لا يعني أنّ المصطلح لم يكن متداولا، ذلك أنّ اعتماد لفظة الحداثة كترجمة نهائيّة لمصطلح مودارزم: (اتجاهات فكريّة وأدبية حديثة-المغني الأكبر-حسن كرمي) لم تحسم، بل أنّ العديد من قواميس الإنجليزية-العربيّة لم تحسم هذه الترجمة، لذلك فعدم ورود مصطلح (الحداثة، كمصطلح معرّب تحت هذا التعريف) قبل الثمانيّنيات لا يعني عدم ظهوره في تعريب آخر: (العصر، المعاصرة، التحديث، الحديث) وهو ما نجده في العديد من الكتابات، وعلى رأسها وأقدمها كتاب عبدالله القصيمي (هذي هي الأغلال) سنة 1946 وهو الموجّه والمرفوع إلى مقام الملك المؤسّس رحمه الله، والذي قدّم فيه شروحات مطوّلة عن العلم والعلمانيّة والمعاصرة.

وهو أولى الإثباتات أنّ الثقافة السعودية قد عرفت في بواكيرها ملامح وطبيعة دورها التنويري، وكانت على وعي تام بضرورة العلم والماديّة والعلمانيّة والعصرنة والمعاصرة ولم تفقد بوصلة خطابها العلمي-السياسي إذ ر فعته إلى صاحب الشأن والقادر على الإصلاح، بوصف الإصلاح السياسي قادر على إنجاز ما لم يمكن إنجازه بطريق أخرى، وقد أظهر الكتاب/الرسالة المعوقات التي قد تقف عثرة أمام الدولة السعودية في مشروع الحداثة الصناعية، العلمية، التجارية، الاقتصادية؛

(2)

يهمّني في هذا الجزء التركيز على وجود دعوة علميّة علمانيّة في بواكير الثقافة السعودية جاءت متناغمة مع تطلّعات الدولة إلى التمدين والمدنيّة باعتمادها على الغربي وقدراته العلميّة والعمليّة والاستفادة من هذه القدرات والخبرات والعلوم على صعد مختلفة غير الاقتصاد، لكنّ الدعوة قد واجهت الثقل الديني الذي وُضع على عاتقه المصادقة الشرعيّة على المدينة وتعقيداتها ومتطلّباتها، ولعلّ هذه المصادقة في المواءمة بين المدينة والتصوّر الشرعي ما زالت آثارها قائمة وشاخصة في حركة الواقع، فكان أنْ وُئد الخطاب العلمي تحت تأثيرات سياسة الأولويّات وثقافة المواءمة، فأنت لا تستطيع نفي أو إثبات أن مشروع التوطين والانتقال من البداوة إلى المدنيّة قد أثمر ثقافة مغايرة تماماً، ذلك أنّ عامل غياب نموذج المدنيّة العلميّة في الواقع أفقد قوّة التأثير؛ وليس يسيراً حسم المسألة: أنّ طبائع المدينة وأخلاقها قد أثّرت على الخميرة الثقافية التي حملوها البدو عند توطينهم، ذلك أنّ مشروع المدينة نفسه لم يكتمل بناء على متطلّبات علميّة وعصريّة أو بناء على مكوّنات ثقافيّة مدنيّة قائمة في طور التشكّل والنمو المدني، لقد كانت الضرورة الواقعيّة في حدودها السياسيّة الممكنة هي الحسم الوحيد لذلك التشكيل والتكوين، وشيءٌ من هذا جعل لثقافة الأولويّة أن تغلب الدعوة إلى ثقافة علميّة تقف بوجه معوقات العصرنة والتحضّر؛ لقد كانت ثقافة المدن تتشكّل تحت تأثيرات مدوّنة دينيّة كانت هي المصوّغ في قبول المدنيّة، فكلّ جديد يحتاج إلى مصادقة دينيّة، لذلك لم يدخل الجديد تحت بند مستقلّ أو تبرير علميّ أو ثقافي. وحال الدولة السعودية في إشكالية علاقة الثقافة القبلية بالمدينة وعلاقة المدينة بهم، وأيّهما له الغلبة واقعاً، ليس بمنأى عن التيه المدني الذي وقعت فيه الدول العربية الأخرى، وتحديداً في مسألة العلاقة الثقافيّة بين الأرياف والمدن.

لقد طرح عبدالله القصمي، وهو في مرحلة الاعتدال، مسائل الحداثة-العلمانيّة الأصيلة المعتمدة على العصرنة، العلم، البحث، الدراسة، حقوق الإنسان، المرأة، حقوق المعتقد، والأخذ بأسباب القوّة والحياة والرفاهية والسعادة، وهو الخطاب الأكثر نضجاً في وضوحه، وجهة تصديره، مبيّناً أنّ تلك المسائل كلّها ليست ضدّ الدين وهي في صالح قوّة الدولة وأفرادها وحريّاتهم، بل أنّ الدين الإسلامي حريصٌ على العلم والأخذ به، وعلى صقل مسؤولية الفرد في الإنتاج والمشاركة. لكن تطوّر هذا الخطاب مع صعوبات تنفيذه مباشرة وفقاً لتقديرات السلطة حينذاك، ثمّ وصوله إلى حدود التطرّف والتصادم وأد الدعوة العلمانيّة وحوّلها إلى مرحلة مقفلة على نفسها حينها، وبقيت هكذا حتّى عودة الدعوة اليوم كما هي في بواكيرها معتدلة وليس إقصائيّة وجامعة وليست أحادية، فنحن لا نعدم اليوم نرى تزايد الدعوات إلى إعادة النظر في التحالف السياسي-الديني وتوسعته ليضم المكوّنات جميعة، والنظر إلى فصل السياسة عن رجال الدين، وزيادة حريّة البحث والعلم كما لم تصل إليه الدعوة من قبل؛

تاريخيّاً، واجهت المسألة أوج صراحتها في طرح الحداثة العلمانيّة، وخسرت في خطابها حينما لم تتدرّج في الخطاب لاحقاً، بل ذهبت مع التيّارات التصعيديّة العربيّة ومسّها تطرّف أفسدها؛ ولعلّ ذاك التطرّف الثقافي قد أنتج شيئاً من الحذر والخيفة من الثقافة، وأنتج ما بعدها من تعقيدات ومحاولات تريد أن تعطي انطباعاً مغايراً للثقافة، وأنّ الثقافة ليست ضدّ السلطة أو أنّها ليست مسؤولة في الأساس أو مشغولة بالمسائل السياسيّة، وهو بداية التردّد والتقية، وبداية انحسار مشروع ثقافي كان قدره أن يكون أحد مكوّنات حداثة الدولة وعلميّتها؛ وهو المشروع الذي نراهن عليه اليوم في فترة بروتستانت الثقافة وقراءة الدين الحرّة ومشاعيّة المعرفة، وتقارب واعتراف السلطة بدور الثقافة والمعرفة في تأصيل مفاهيم المواطنة والوحدة والدولة، وتجفيف منابع التطرّف والإرهاب.

ياسر حجازي - جدة