Saturday 31/05/2014 Issue 440 السبت 2 ,شعبان 1435 العدد
31/05/2014

ليتني لم أعرف الكبار*

إن الحديث عن رجل بحجم الفقيد (عبدالعزيز الرفاعي) هكذا مجرداً من كل لقب فلا تزيده الألقاب ولا تكبره المناصب وهكذا العظيم كالسيف المجرد من غمده. لا أريد أن أحدثكم عن سيرته وحياته أو أعماله وبداياته، فتلك مجالها التراجم والسير وقد رصدت والحمد لله في الكتب والرسائل الجامعية التي صدرت عنه وأعطته بعضاً من حقه. لكن أريد أن أتحدث بعاطفة المحب المصاحب. كنت أسمع عنه كلما حل موعد الصيف حضر للطائف بحكم عمله في ديوان رئاسة مجلس الوزراء، وكان يتخذ له في بعض الأمسيات مجلساً ومتكأ لدى مكتبة المؤيد بالطائف لأن سكنه الأول مجاور لها وتربطه بصاحبها فضيلة السيد محمد المؤيد الحسني صداقة ومودة وإعجاب. سعيت ذات مساء قاصداً رؤيته عن قرب للسلام عليه والجلوس بين يديه. أقبل يتهادى في هيئة وهيبة تليق به هنا قفز إلى ذهني الرجل يوصف لك فتراه أقل مما قيل عنه إلا الرفاعي ترى ما قيل عنه أقل مما رأيت فيه.

كانت مساءلة الركبان تنبئني

عن أحمد ابن سعيد أطيب الخبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعت

أذني بأحسن مما قد رأى بصري

ولما التحقت بالعمل في ديوان رئاسة مجلس الوزراء.صرت أراه عن قرب. كان سكنه الأول بالرياض في ضاحية الملز يوم كانت الرياض بلدة والملز ضاحية لا صخب فيها ولا زحام. ومن حسن الصدف أن سكن أهلي قبل أن أتأهل غير بعيد من داره. لمس عندي رغبة وتطلعاً إلى المعرفة وميلاً إلى الثقافة والصحافة فقال (لما علمت أنك بالملز أحببت دعوتك لتشهد مساء كل خميس جلسة عندي يلتقي فيها بعض الخلصاء من الأصدقاء) لاحظوا أنه لما علم أن المجيء إليه لا يشق عليّ ولا يعسر أسر إليّ بالدعوة. هكذا كان يرفق بالناس يقدر ظروفهم ويراعي أوقاتهم. حضرت أول جلسة كانت تحولاً كبيراً في حياتي رأيته فيها بعض الكبار كالسيد علي حسن فدعق الذي درس الفقه والقانون في جامعة بغداد والشاعر المدني السيد ماجد أسعد الحسيني وشاعر سورية الكبير في زمنه أنور العطار زميل علي الطنطاوي في دراسته وشبابه والدكتور عبدالعزيز الخويطر وقد عاد للوطن في أوائل تلك الأيام والأستاذ أحمد عمر عباس المترجم والمثقف السعودي الذي نسيه الناس والدكتور فوزي هنانو حفيد المجاهد الذي قارع الفرنسيين إبراهيم هنانو والشيخ عبدالعزيز السالم الأمين العام لمجلس الوزراء سابقاً والسفير الشاعر حسن عبدالله القرشي وغيرهم.

رأيت كيف يدور الحديث وكيف تدار الأفكار إذا حضر الكبار. كان عميد الندوة الرفاعي يمسك بزمام الأمر فلا يخرج عن مساره واستمر هذا دأبه وديدنه.انتقلت الندوة من الملز بعد سنين واستقرت بحي الروضة كبر المقر وكثر الرواد وأصبحت الصحافة الأدبية تنوه بها وتشيد صار كل من قصد الرياض من كبار الفضلاء والأدباء والعلماء وخاصة ضيوف جائزة الملك فيصل العالمية والجنادرية يحرصون على الحضور إليها والتحدث فيها ورؤية عميدها ومنشيها.

سعدت أعين رأتك وقرت

والعيون التي رأت من رآك

كان محور شخصية الرفاعي بعد العلم الواسع الخُلق والترفع والحلم والتعفف وهذا سر جاذبيته ومناط شخصيته فأجمع الناس على حبه واتفق المختلفون على الميل إليه والرضا عنه. كان رحمه الله وأعلى منزلته كبيراً لا متكبراً. متواضعاً لا وضيعاً. مهاباً لا هياباً. كانت عظمته في التواضع والتسامح والاستغناء عن الناس.

عظيم من استولى على الناس كلهم

ولكن من استغنى عن الناس أعظم

كان رحمه الله يتمتع بمساحة واسعة من المحبة بين الناس في الداخل والخارج كان يوظف بعضها للشفاعة الحسنة ولو جمع البريد الذي كان يصل إليه أو يصدر منه لرأيت عجيباً وشيئاً غريباً في أكثرها معلومات وذكريات ومرويات واستدراكات على مطبوعات.

كان يحسن الاختيار والترشيح للجوائز والتكريم فقد سعى لدعوة بعض كبار شعراء المهجر كالشاعر القروي والشاعر زكي قنصل وغيرهم. وكان صديقه وصفيه ونظيره في البذل والسخاء الشيخ عبدالمقصود خوجة يستشيره ويطمئن إلى رأيه ورؤيته.

كانت لدى الرفاعي رحمه الله أحلام كبار وآمال كثار منها النهوض بالكتاب السعودي وإيصاله إلى كل معرض ومكان وقد تحقق بعضه في حياته عبر إصدارات تهامة التي كان عضواً في مجلس إدارتها وجهود رئيسها الناشط الأستاذ محمد سعيد طيب. وذلك قبل إنشاء جمعية الناشرين التي كان أول من فكر فيها وشجع عليها. قلت له مرة مازحاً يا شيخ عبدالعزيز لا تذهب نفسك عليهم حسرات فما دام الشاب السعودي يدفع خمسين ريالا لإصلاح رأسه من الخارج ويتردد في دفع خمسة ريالات لإصلاحه من الداخل فلا ترجُ خيراً. لكنه أصر واستمر وهكذا المصلحون العظماء وأصحاب الرسالات لا ييأسون ولا يقنطون. كانت لديه مشاريع وآمال كبار تدور حول إصلاح المجتمع الثقافي والاجتماعي لأنه يحمل بين جنبيه قلباً كبيراً كان يحرص على الإصلاح بين الناس وستر العورات وإقالة العثرات:

فتراه بالإصلاح مغرا كلما

وجد السبيل إلى صلاح سارا

حتى كأن عليه عهداً للعلا

أن يصلح الأخلاق والأفكارا

أيها الإخوة.. بعد سنين وتجارب أدركتُ أن معرفة رجل كبير بحجم الرفاعي والقرب منه والإعجاب به يرتب عليك مسؤوليات جسامًا تجعلك تتطلب نموذج الكمال والمثال في أكثر من تلقى من الناس وهذا من المستحيل والمحال. والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

أيها الإخوة قلت لكم إن الحديث عن شخصية بحجم المرحوم الشيخ عبدالعزيز الرفاعي واسع وكبير والخوض فيه شاق وعسير. عاش حتى جاوز السبعين من عمره ثم أدركه الكبر وضعف البشر ووقت القدر وكأنه تنبأ برحيله فرثى نفسه بقصيدة مشهورة ألقاها في نادي جدة الأدبي مساء الأحد 12-10-1413هـ في حفل تكريمه الذي غادر بعده للعلاج، وقد نعى فيها نفسه، وهي من عيون الشعر العربي في رثاء النفس قال من بعض أبياتها.

سَبعُونَ يا صَحْبي وَجَلَّ مُصَابُ

وَلدَى الشّدائِدِ تُعرَفُ الأَصْحَابُ

سَبعونَ يا للهَوْلِ أَيَّةُ حقبةٍ

طَالَتْ، وَرانَ على الرَّحِيقِ الصَابُ

تتَراكَمُ الأَعوامُ فوْقَ رُءوسنِا

حتى تَئِنَّ مِنَ الرُّكامِ رِقابُ

لاَ تعجَبُوا إنْ نَدَّ خَاطِرُ مُتْعَبٍ

بَعْدَ السَّرَى وَشَكَا إِلَيْهِ رِكَابُ

سَبعُونَ ظَنَّ أَحِبَّتِي أنِّي بِهَا

أعلِي القِبَابَ وَمَا هُناكَ قِبَابُ

أَنَا مَا خَدَعْتُهُمُ وَلكِنْ غَرَّهُم

حَظِّي لَدَيْهِمْ والحُظُوظُ عُجَابُ

سَبعُونَ كَمْ فِيَها تَجَمَّعَ رفْقَتي

وَجداولُ الوُدِّ الحمِيمِ عِذَابُ

حتى إذا وَشَّى الربيعُ رِيَاضَهُمْ

ودَنَا القِطافُ وَطابتِ الأعْنَابُ

سَاقَ الزَّمَانُ السِّربَ نَحْوَ شَتَاتِهِ

فَتَفَرَّقُوا وَكأنَّهُمْ أَغْرابُ

وَخَلَتْ مِنَ الأُنسِ اللَّيَاليِ بَعَدهُمْ

وَمَضَى فَحَطَّمَ عُودَه زِريَابُ

لِلْمُبْدِعِينَ الجَزْرُ مَدَّ رُواقَه

فَطَغَى عَلى الفَنِّ الأصيلِ غِيَابُ

والزَّيْفُ يَجْتَاحُ السَّواحِلَ مَدُّهُ

فَإِذا بِمَوْجِ الزَّائِفِين عُبَابُ

طُوَبى لِمَنْ جَعَلَ المَحَبَّةَ جَدْوَلاً

وَسَقَى أَحِبتهُ فَطَابَ وَطَابُوا

سَبعُونَ عِشْتُمْ مِثْلَهَا بَلْ ضِعْفَهَا

وَالْحَادِيَانِ: سَلاَمَة وَصَوابُ

كما رثاه الكثير من عارفيه ومجايليه بقصائد نختار منها بعض أبيات للدكتور عبدالقدوس أبو صالح قال فيها.

قتيل الشوق !.. أيكما القتيل؟

وبرد الموت تغزله القتول

وكل الناس في درب المنايا

وما يبقى حبيب أو عذول

هي الأقدار لي.. منها سهام

وهل يغني حذار أو ذهول

ومن سهم المنية بي خبال

أحاذر أن يصاد به خليل

تموت حزازة ويفيض حزن

ويبقى في الشغاف لها نصول

وتبكي كلما هاجتك ذكرى

فأنت بنصلها أبدا قتيل

ولولا من عرى الإيمان سلوى

تصدع قلبي الجلد الحمول

لعمري عطلت أفراح أمسي

وآن لكل مرتحل قفول

أحقا غيَّب الرجل النبيل

وهدَّم ذلك الصرح الجليل

وأرقب في لقائيه الليالي

وتطويه المنون فلا سبيل

توارى مثلما الأحلام تمضي

فلا مرأى .. ولا حلم جميل

ولست مبالغاً فأقول مادت

بنا الدنيا .. وزلزلت العقول

وتبكيك المروءة يا فتاها

ويسقي تربك المزن الهطول

لعلك في جوار الله راض

ويشفع في خطاياك الرسول

هكذا شاءت إرادة الله ورحل الرجل الكبير بعد أن فتح في حياته للمجد بابا وللخلود أبوابا وهكذا يستمر ذكره الباقي والذكر للإنسان عمر ثانٍ وقد حياه في حياته كثير من الشعراء والأدباء مشيدين بأفعاله وأفضاله أختار منها بعض أبيات لشاعر اليمن الكبير وراويتها الشهير الشيخ أحمد الحضراني الذي أدهشته شخصية الرفاعي ومواقفه ووفاؤه وسخاؤه فوقف وهتف مرتجلاً وسط حشد جامع من الحضور قائلاً :

عبدالعزيز الرفاعي منتهى أربي

بعد الإله ومقصودي ومطلبي

فإن ظفرت به فالله يكلؤه

لقد ظفرت بطود العلم والأدب

ختاماً أحيي كل من سعى لإظهار هذا اللقاء الذي اتسم بالوفاء لإنسانٍ ولد في هذا المكان بهذه الأرض المباركة ولندوة مضى على إنشائها أكثر من نصف قرن نأتي اليوم ونجتمع في البلد التي ولد به منشئها وحضر هذا المساء بعض محبيها.

** ** **

* ألقيت مساء يوم الجمعة 17-7-1435هـ بدعوة من اللجنة الثقافية بمحافظة أملج وشهدها حشد كبير من المهتمين والمسؤولين والمثقفين وقدم لها وأدار الأمسية الأديب والشاعر المعروف أحمد العرفج.

من عصبة الأدباء - الطائف