الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st February,2005 العدد : 94

الأثنين 12 ,محرم 1426

المُدن العربية في شعر خالد الخنين 1 2
عبد السلام العجيلي
مضت بضعة عقود من السنين والكرام من أصدقائي ومعارفي بين الأدباء والناشرين يوفرون علي اقتناء الكتب بطريقة الشراء. ذلك لأن هداياهم إلي من المطبوعات تملأ كل وقتي المخصص للقراءة وتزيد. لابد من أن أقرأ كل ما يهدى الي، وأحيانا لابد من التعقيب عليه بالشكر وإبداء ملاحظاتي من خلال الشكر، إذا لم يكن كتابة، فمشافهة، صحيح ان هداياهم الكريمة حرمتني من متعة التنقل بين المكتبات والإطلاع على الجديد من الصادر في عالم النشر، ولا سيما من مطالعة ما يروق لي في اللغتين الأجنبيتين اللتين أقرأ بهما في العادة. على أن متعا كثيراً أخرى تصادفني في ما يهدى إلي من مؤلفات المعارف والأصدقاء. من هذه الأخيرة ما قرأته مجدداً في كتاب ألفه صديق عزيز ودرس فيه جانباً من النتاج الشعري لصديق عزيز آخر.
واكتملت المتعة بأن دراسة مؤلف الكتاب كانت مبتكرة في توجهها إلى ناحية معينة من نتاج الصديق الشاعر، قل أن تعرض إليها الدارسون قبل هذا الصديق المؤلف.
الكتاب الذي أعنيه، وهو آخر ما تلقيته من الكتب المهداة، عنوانه (العواصم والمدن العربية في شعر خالد الخنين) وهو من تأليف الصديق الباحث والناقد الأستاذ عبد اللطيف الأرناؤوط. والابتكار في تأليف هذا الكتاب يأتي من اختصاصه بما نظمه الصديق الشاعر الأستاذ خالد الخنين في المدن التي زارها أو أقام فيها أو تأثر ببعض معطياتها، من بلاد أمتنا العربية. وهو اختصاص لم يسبق للنقاد ولمؤرخي الأدب أن اتبعوه في ما عالجوه من إنتاج مختلف الشعراء العرب في مختلف الأزمان.
شخصياً، كثيراً ما خطر ببالي أن ثمة أنواعا من الابتكارات في الدراسات النقدية للشعر العربي لم يتطرق إليها النقاد. لم يقم أحد، مثلاً بجمع القصائد التي قالها شعراء مختلفون في مدح هارون الرشيد ووصف مغازيه، أو القصائد التي قيلت في سيف الدولة في المناسبات المماثلة، ثم أخضعت تلك القصائد إلى دراسات نقدية، تاريخية وفنية، تغني معرفتنا وتمتعنا.
وكتاب الأستاذ الأرناؤوط، على أنه لم يحتو على ما تمنيته وخطر ببالي من نوعية الابتكار، فإنه شابهه أو جاء قريباً منه وخلق به نوعاً جديداً من الدراسات التعريفية والنقدية.
يتألف كتاب الأستاذ الأرناؤوط عن العواصم العربية في شعر خالد الخنين، على صغر حجمه، من جزأين أو من فصلين مستقلين. في الفصل الأول يتحدث المؤلف عن نظرته هو إلى طريقة مقاربة الشاعر للمدينة العربية التي ينظم فيها قصيدته. وفي الفصل الثاني يورد القصائد المقولة من قبل الشاعر عن تلك المدن، كأنه بإيرادها يريد أن يترك للقارئ أن يكون نظرته الخاصة إلى تفنن الشاعر فيما نظمه. وأنا كقارئ قبلت كل ما قاله المؤلف عن القصائد التي أوردها إلا أني اكتشفت الشاعر الخنين، وإن كان عبر بأجمل ما يكون من إعزازه المشترك للمدن التي تحدث عنها، قد ميز كل مدينة عن أختها بمبعث هذا الإعزاز. تحدث عن دمشق وحلب والرياض وبيروت وعن بغداد وعن القدس، ثم عبر عن أساه وعن تمجيده للفلوجة في ما كابدته ولا تزال تكابده في عناد بطولي في مقاومتها المحتل الغاشم.
قلت إن الشاعر قد ميز كل مدينة من المدن التي نظم فيها قصائدها بنوعية إعزازه لها. دمشق هي مدينة الجمال والفتون. مدينة الخمائل، ومدينة قاسيون التي تطل على بردى بالسحر ينشق شذاه. إنها مدينة العاشقين والأحبة الذين موعدهم بظل الليل والذين لا تنسى ذكرياتهم ولا يسلو عنهم الخاطر. وحلب، مدينة التاريخ والصمود والمجد العربي الذي يقف سيف الدولة الحمداني على ذروته. إعزاز الشاعر لها مبني على هذه الصفات المجيدة من ماضيها وحاضرها. أما مدينة الرياض فهي العشق الأول للشاعر. إعزازه لها مستمد من فخره بها وبأبنائها ومن الحنين الذي يرجع به إلى ذكرياته عن عشيات الحمى، وقد أنشأ في تلك العشيات ديواناً كاملاً بين دواوينه المتعددة التي أصدرها قبل اليوم. وبيروت، إعزازه لها نابع من كونها موطن للعاطفة والجمال من ناحية، ومدينة مناضلة في احتفاظها للأمة العربية بقيم ثقافتها في عصور الانحطاط السياسي لهذه الأمة وابتعاث هذه الثقافة في عصرها الحديث.
إعزاز الشاعر الخنين لهذه المدن العربية السالفة الذكر، منبعث من عناصر حب وحنين وفخر بأمجاد ماضية لهذه المدن، وتقدير لمسيرتها الراهنة في التحضر ولصمودها في وجه ما تتعرض له أمة العرب في الأيام الحاضرة من اعتداءات وما يبيت لها من مؤامرات.
ولكن القصائد الأخيرة من قصائد الشاعر الخنين في العواصم والمدن العربية التالية لما نظمه في المدن الأولى تستمد إعزازه لها من أرضية أسى وتألم، يمازجها التمجيد والافتخار. أسى وتألم وتمجيد وافتخار، مصدرها إحساسه الممزق مما ينزل بهذه المدن الأخيرة من كوارث وما يحتمله أبناؤها من أذى وما يقدمونه من تضحيات في الدفاع عن أرضهم وفي التمسك بكل شبر من تلك الأرض، في وجه قوى غاشمة وعاتية، دون مساعد ونصير من أبناء أمتهم العربية. هذا إذا استثنينا الخطب الفضفاضة والاستنجاد بالمحافل الدولية لنصرتها، وهو استنجاد لا يسمن ولا يغني من جوع. تلك هي القصائد المؤثرة للشاعر الخنين في المدن الثلاثة الأخيرة، بغداد والقدس والفلوجة.
لن أتحدث عن النواحي الجمالية في قصائد خالد الخنين الواردة في كتاب الأستاذ عبد اللطيف الأرناؤوط فقد كفّى الأستاذ الناقد ووفى فيما أورده في الكتاب عن هذه النواحي. وإنما أريد أن أقف على جانب لم يقصر الأستاذ الأرناؤوط في الإشارة إليه، وأحب شخصيا أن أزيد فيه تأكيداً إنه الجانب القومي. فهذه الظاهرة التي تتبدى في عمل فني لشاعر سعودي يتناول فيها أفكاره ويشرح فيها عواطفه ويستعيد فيها الذكريات الغابرة والحاضرة، الشخصية والعامة، عن مدن عربية متعددة ومختلفة، هذه الظاهرة توحي بدون تقصد أو تعمد بانغراس الروح القومية المجردة في تكوين هذا الشأن السعودي وهو انغراس عفوي، لا في تكوين المثقف والمبدع السعودي خالد الخنين وحده، وإنما هو نموذج لما هم عليه الكثيرون من النخبة العربية المثقفة، الواعية بصورة خاصة، في مختلف بلدانهم المتباعدة والمترامية الأطراف.
الجانب القومي في هذه الظاهرة يؤكد ما يتردد بين الحين والحين على الألسنة وعلى رؤوس الأقلام من أن المثقفين هم الصخرة التي ترتكز عليها القومية العربية، وهي التي حفظت وتظل تحفظ لهذه القومية وجودها وثباتها تجاه المحن والعواصف وتقلبات التاريخ قامت بذلك في أزمان ماضية وتقوم به في الأزمات الحاضرة والمستقبلة. وشعر خالد الخنين الذي جمعه عبد اللطيف الأرناؤوط في الكتاب الذي أسلفت الكلام عنه تصديق لما قيل وما يقال، وما كتب وما يكتب، عن قيمة الثقافة في حفظ بذرة القومية في عهود الجفاف والقحط، وعن قدرة هذه البذرة على التفتح والتألق والتنامي في عهود التقدم والتطور نحو الأفضل. وهذا واحد من عناصر المتعة القيمة التي حملها ويحملها لكل قارئ، كتاب عبد اللطيف الأرناؤوط عن العواصم والمدن العربية في شعر خالد الخنين.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved