الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st March,2005 العدد : 98

الأثنين 11 ,صفر 1426

استراحة داخل صومعة الفكر
الرحيل إلى الأعماق علي أحمد النعمي
سعد البواردي

الرحيل إلى الأعماق.. غوص إلى قاع الحياة لاكتشاف جديد لم يظهر بعد:
سلاحه جرأة.. ومعرفة بالكهوف المتناثرة في أعماقه.. مخاطره لا تحتمل التذكير أقلها الغرق حين لا يسعفه النَّفس، ولا ترتاده النفس بإصرارها وعزيمتها..
وإذا كان للماء أعماق تعمرها حيتان، وأسماك صغيرة كثيرة.. وغابات مائية.. وجبال مغطاة.. وكهوف تغطي ما بداخلها.. فإن لأعماق الإنسان أكثر من مشهد.. الحب، والكراهية.. العمل والكسل، العلم والحلم.. الأمل واليأس.. الغنى والبؤس. كلها تستوعبها الأعماق وتضخها على السطح موزعة بين الناس.. مفزعة حيناً.. ومبهجة أحياناً..
النعمي رحل إلى أعماقه.. ويقدر كل واحد منا أن يرحل إلى أعماقه مستكشفاً لو لم يأخذه التجاهل.. ويلوي به الكسل.. شاعرنا الأسبق إلى رحلته.. هل إنه رأى ما لا نرى لو أننا رأينا.. زوايا الرؤية ولقطات عدساتها تتباين وتختلف أمام مشهد واحد، ناهيك بمشاهد مختلفة بعضها وردي، وبعضها رمادي.. مع شاعرنا النعمي في وقفة البدء وقبل أن يرحل:
بلاغ مكة دعني لحظة أقف
أمام ما فيك ليث المجد والشرف
دعني أضحك أروي من سناك لظى
قلبي ومن منعك الفياض أغترف
رحلة إيمانية لها عمقها اتسعت دائرتها كي تطال الروح بعاطفتها.. والريح بعاصفتها
أنا أمامك يجري في دمي أمل
بنصرة الحق، والرايات تأتلف
بعودة القدس مسرى الأنبياء إلى
ساداتها ديدك الزهو والصلف
بعودة الأرض من أيدي اليهود إلى
أبنائها العيد، ولكن أين من زحفوا؟!
ويتساءل في حرقة وحيرة كمن صدمه واقع مريض يفتقر إلى العلاج كي يشفى من سقمه:
أين الأباة الغضاريف الألى سحقوا
أعداءهم وكطوفان بهم عصفوا؟
من أمام بوابة بلاغته بدأت خطواته:
شتى الخواطر هدمت في بالي
وتزاحمت حتى استجار خيالي
هذه الخواطر أي شيء ساقها
نحوي وكيف تكدست في الحال؟!
سودا يمد بكل ظفر جارح
الأثرى يا صديقي إن الناب أكثر شراسة وإيجاعا من الظفر؟
يحتويه العجب إلى درجة الإغماء لهول ما يشهد من ضياع.. المشهد أمام عينيه حالك السواد والقتمة..
عجبي يمزقنا الضياع وعندنا
نور من المتفرد المتعالي
حين نسترشد بالنور اليقيني الإيماني لن نرى ظلاماً يحجب الدرب.. ولا ضياعاً يمزق صفوفنا ويجعلها لقمة سائغة للطامعين.. القدس الجريحة الحزينة ماثلة أمام عينيه لا تبارحها..
يا قدس كم في الأرض من جور
ومن بغي، ومن قتل، ومن إذلال..
كم فيك من جرحى، ومن مرضى
ومن بؤساء من ثيب، ومن أطفال
مشهد من الماضي اتسعت رقعته.. فلسطين كلها ترزح تحت أحذية الغزاة النجسة.. هذا عن فلسطين الأرض السليبة.. ماذا عن العراق الحبيبة وتتارها الغزاة الجدد؟ ماذا عن الجولان؟ ماذا عن الهجمة الشرسة الصليبية التي توجه في كراهية وحقد لعالمنا العربي والإسلامي؟!
ديست كرامتهم، وضاع تراثهم
فتلاوموا في التحية بالأرتال
وبصوت مشبوب يكاد يلفح وجهه:
يا قادة الإسلام، يا زعماءه
إني أناديكم بصوت عال
أأنا أعيش بأمة سباقة
لمآرب، ولطلبة الاعمال؟
تبغي الحياة كما يشاء لها الهوى
ولتصبح الأوطان كالأطلال
أم أنني في أمة خفاقة
أعلاقها في وحدة وكمال!
نبذت خلافات الهوى وتمسكت
بالعروة الوثقى بكل مجال؟
سؤال يجيب عليه مستقبل الحال
الشرق الحزين صاغ لها شاعرنا النعمي ملحمة اقتطف منها أجمل ما فيها.. وكلها جميلة.
يا شرق هل يجدي التفجع والأسى
والأرض تسلت والحقوق تباد؟
هذي ديارك في يد الباغي له
فيها أرائك عزة.. ومهاد
يا أمة غشى على أبصارها
كيد العدو، أما بكِ استعداد
لا تنفخي في قربة مشقوقة
(إن الحياة عقيدة وجهاد)
ما مجلس الأمن الوثير بنافع
والأمن موؤون به ومباد
هذا التمزق تلمِّي أظفاره
وتجمعي.. لا يفلح الآحاد..
أبيات موحية بدلالاتها وغيرتها ونخوتها:
فانفض غبار اليأس وانهض قائلاً
أنا سيد الدنيا ففيم أساد؟!
فلقد يبين النور من خلف الدجى
ولقد يحقق في الحياة مراد..
شاعرنا سلاحه الشعوري خاض معركة الحياة بجرأة ومصداقية.. نفق في البوق.. أطلق صفارة الإنذار.. ولكن هذا لا يعيد أرضاً.. ولا يحفظ عرضاً استبيحت حرمته.. ولا يجفف دمع ميتم، أو مشرد.. أو جائع تحت مظلة الحصار، ولهيب النار.. أبداً هذا لا يكفي دون أذن صاغية ويد ممدودة بسلاح القوة..
(بيروت الحدث والموقف) يحدثنا عنها بلغة اشتياق وجل.. مليء بالحيرة والحسرة:
بيروت تصرخ في القيود ذليلة
وتئن في جزع أمر أنين
بيروت يا بيروت لا تتساءلي
بيروت فالأيام ذات شجون
إن الحروف كثيرة وأهمها..
في العالم العربي حرف السين
سنسوقهم سوق الحمير، سنعتلي
هاماتهم، سندوسهم في الطين
أبطال المقاومة في الجنوب أنجزوا ما عجزت عنه أمتنا العربية مجتمعة ناهيك عن عالمنا الإسلامي.. حررت الجنوب ودحرت جنود الاحتلال ومثلهم أطفال الحجارة وأبطال المقاومة في فلسطين، وعلى أرض الرافدين دمهم ذكيا وزكيا على ساح الاستشهاد دون رهبة.. الرغبة في الحياة قربتهم من الرغبة في إهداء أغلى ثمن
أتثور أمريكا لمقتل ضابط
وتهدد الدنيا بكل جنون؟
وتنام ملء جفونها عن حقنا
وكأن حبل العرب غير متين
تلك هي المفارقة في عالم العولمة.. الكبار يحاسِبون بكسر السين ولا يحاسَبون بفتحها لأن حق القوة أقوى من قوة الحق.. يا للهول!
في خطابه الشعري الرئيسي العنوان (الرحيل إلى الأعماق) ينشط ذاكرتنا مذكراً ما يعانيه عالمنا العربي والإسلامي من إحباطات وإسقاط وأخطار تهدد مسار حياته وحريته.. لعل الذكرى تنفع المؤمنين:
في ليله المملوء بالأحزان
ومرارة البأساة والحرمان
نادته أم عيالها في لهفة
عند الفراش بهجعة الصبيان
حتى نعيش حياتنا تلك التي
بهتت، وتسعد لحظة بتدان
ماذا قالت لأطفالها، وبماذا سرح خيالها؟
أنا والصغار أعيش في دوامة
يومي، وليتك حاضراً لتراني
عمرو يخاصم زينبا وأمينة
فرّت إلى الجيران من حسان
صورة مصغرة لتفكك المجتمع وتشرذمه
إني كإنسان أعيش تعاسة
وتخرقا في داخلي أضناني
تغتالني المأساة، يفتك في دمي
داء.. نبيت الفتك كالسرطان
مأساة شعب ضم كل غضنفر
ما هان رغم فجيعة الخذلان
وطني الممزق لم يعد من ينتخي
لقضيتي.. لتشردي لهواني
أم عربية وربما فلسطينية هالتها درجة الهوان وراحت في بوح تغرق ذاكرتها المعذبة بالدموع، مشهد الدماء التي تسيل رخيصة.. المسجد الأقصى الذي يتهدده الهدم.
وهناك في كهف الظلام عصابة
ألقت أزمتها إلى شيطان
سلكت طريقا في الرماد استمرأت
ان يرتشي الإنسان من إنسان
وهناك شعب ثار يطلب حقه
لما رأى جورا من السلطان
وهناك شعب خانع مستعبد
راض بكأس مذلة وهوان
وهناك سيف خارج من غمده
يدع الرجال تخر للأذقان
وهناك سجن كدست ردهاته
بالأبرياء الطاهري الاردان
وهناك طفل داسه متغطرس
بغيا.. وهد روائح الريحان
وهناك أرض ردعت من غادر
بالقصف فالتطمت على السكان
لا الزوج يعرف زوجه مما جرى
فيها.. ولم يعلم عن الجيران
وهناك أشكال بلا حد ولا
حصر يحيط بها ولا حسبان
شريط حزين مأساوي انتزعته الأم من ذاكرة الرحيل إلى الأعماق بسرده على صغارها كي يذاكروا الدرس ويستذكروا عثرات الماضي لعل في تذكيرهم ما يشفع لمستقبلهم تصحيحا لمساره، وإيقاظا لنهاره الذي يغفو خلف سحابة سوداء مطبقة على أنفاسه..
فتلومه كل السيوف كسيرة
كل الرماح بحرمة الميدان
نسيت به الأسد الغضبان زئيرها
أو أنسيته وأصبحت كالضان
كانت ليلتها تودع عامها لتستقبل آخر:
كم مرة من عام ونحن كما ترى
ومضى نعيش تصدع البيان!
نسعى ولا نسعى، ويعلم أننا
نسعى ولا نسعى لشط أمان
نبني ولا نبني لأن بناءنا
متداخل الأدوار والألوان
حراك دون بركة هكذا أرادت أن تقول لطفلها وأطفالها في استرسال مجهد حاولت به أن تبعد السبات عن عيونهم لأنها ضاقت به لكثرة السبات في تاريخ أمتها.. وتتساءل قائلة:
واليوم ماذا في الحياة لأمة
تاهت زوارقها على الشطآن؟!
ضلت قوافلها، وضاع حداتها
وتفرقت بددا بكل مكان
باعت مقام إبائها ومضائها
وشموخها بضآلة الاثمان
ما بال أمة أخمد في حيرة
من أمرها مهزوزة البنيان؟
في وضعها، في رأيها، في فعلها
في قولها، القاصي شبيه الداني
عصفت بها أهواؤها فتفرقت
وعذت وقودا في فم البركان
تركت (عليكم نعتمي أتممتها)
(ولكم رضيت) خلاصة الأديان
و(استمسكوا بالعروة الوثقى)
ولا تتفرقوا بوساوس الشيطان
فغدا بها الوطن الكبير برغمها
متعدد الرايات والأوطان
سرد وعظي إيماني اكتملت به صورة التذكير، والتحذير استمدته من رحلة أعماقها لتطرحه كمشهد حياة تعوزها الحياة.. وأمة يعوزها الالتئام.. وصحوة دونها المنام.. بها يستحق شاعرنا علي النعمي الإشادة.. رغم كلاسيكيتها..
ومن نجاواه الضارعة اجتزئ بعضا من مقاطعها المعبرة بروحانيتها..
يا فؤادي حان الرحيل فهيا
هيئ الزاد فالكؤوس تدار
وتضرع إلى رحيم كريم
فضله في عباده مدرار
(من كم ليلة) عنوان لافت للنظر:
أطفأ الضوء وراعى النجم راعى
سابحا في أفقه يزهو التماعا
شدة منه السنى الصافي وما
أجمل الضوء على الأفق مشاعا
عيون شاعرنا شخصت نحو السماء ترقب النجوم والكواكب وتسبح في فضاءاتها الواسعة
هذه الزهرة ذاك المشتري
هذه العذراء منها الطيب ضاعا
والثريا لم تزل معرضة..
عن سهيل وهو يرجوها اجتماعا
ودَّها أفضى لها عن حبه
عن هواه ثم صدته امتناعا
حب النجوم شيء آخر لا يقبل القبل.. ولا يستجدي الحب كما نستجديه.. انها اجرام سماوية تدور في فلكها تستمد سحر بريقها من وجنات الشمس المتوهجة..
يترك النجوم وعشقها الاسطوري في خيال اللا معقول ويلتفت إلى نفسه في مخاطبة شاعرية:
أي عيش أي حزن أوقفا
زورق الشاعر غمطا واضاعا؟
إنه في الهم حيران.. وكم
أطبق الموج عليه وتداعى!
من يديه سقط المجداف في
لحظة كان بها يهوي اندفاعا
بينه والشط بعد ساحق
وهو لا يقدم باعا أو ذراعا
ارجعاه يائسا، وهو الذي
ظن ان قد ارهب اليأس فطاعا
الصياغة: والفكرة وأسلوب الطرح في أبياته شفافة موحية بجمالياتها.. ورقة تعبيرها وهو ما لم يتوفر في معظم قصائده التي طغى عليها الأسلوب التقليدي المباشر.. إنه وجه جديد في سلاسة الطرح.. وسلامة المحتوى تمنيت لو أنه تواجد بهذه الصورة المخملية في عطاءاته الشعرية بشكل أكثر شمولا.
وعن قريته تداعت الصور في ذاكرته.. تذكرها وما أخاله نسيها:
يا قريتي أنت نقش حل ذاكرتي
ولوحة رسمتها بالوفاء يدي
تألقي بأغاريدي وهينمتي
ووشوشاتي.. وفي افيائها ابتردي
ما ضرني ان شربت الكأس مالحة
أمسي وعايشت في يومي وجود رديء
لعلها قضية لاجئ اشتاق العودة إليها دون أن يقدر.. اعطاها من شعره وجدا.. ووعدا بالعودة
يا قرية كم بها غنى على وتر
شاح وقال لها: نهر الحياة ردي
وشالها من حضيض الصمت فاتسمت
وصاتها من رياح البؤس والأود
خلى العيون لخال فوق وجنتها
ترنو.. وبالخال حيت روعة الجسد
بهذه الوصلة من الحب أحييك بقدر ما حيي فارس شعرك.. وبقدر ما استنهض من عزيمة.. وبقدر ما توجه من ألم.. وبقدر ما حلم.. فارس شعرك أنت.. أنت الذي صنعته بمداد قلمك وأعطيت له مساحة من أدبيات الشعر يتحرك داخلها بحرية عاقلة لا تتجاوز الثوابت ولا تقصر عنها.


الرياض: ص. ب 231185
الرمز 11321 فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved