الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 21st June,2004 العدد : 64

الأثنين 3 ,جمادى الاولى 1425

شجن السؤال
شفافية الهطول؟!
عبد الله بن عبد العزيز الصالح

كلما مرَّت بنا ذكرى رحيل الشاعر أمل دنقل ، ازددنا إيماناً عميقاً بعبقرية هذا الفنان المتجدد ، وبأصالته ، وباستشرافه المبهر .. فشعره ليس صورة لعصر محدد ذي قسمات بيِّنة الملامح ، لا تخطئها العين ، عصر عاش فيه الشاعر ووقف فيه موقفاً محدداً ناصعاً ؛ ومن أجل ذلك فإن شعره لا ينطوي على مباشرة مجانية صارخة كما يتهمه البعض.
لن أطيل الكتابة عما ينطوي عليه الخطاب الشعري لدى أمل دنقل ، لأن الكبار وحدهم تتلاشى أمام قاماتهم العملاقة الحروف وتهرب الكلمات ساعة الكتابة أمام عبقريتهم الفذة لائذة بسديم كثيف من الشجن !!
إن (النص الدنقلي) يُمثَّل النص الأروع والأصدق على تداخل الفنان مع واقعه المعاش تداخلا مدهشا يسعى إلى إشعال فتيل الحيوية في الصوامت ، والنوافل ، والهوامش التي نراها يومياً أثناء غدونا ورواحنا ، حتى تحولت المفردات البعيدة عن أنساق الشعرية إلى كلمات تضرب أطنابها في حضرة الشعر . هذه الكلمات مثل : (مستشفيات الولادة ، البنوك ، أجولة القمح ، دار الولاية ، القطن ، الشاش ، كوب اللبن ، السرير ، معاطف الأطباء ، تاج الحكيمات.. إلخ) .. فهذه الكلمات وغيرها التي يحفل بها خطابه الشعري هذه المفردات التي سرى فيها ماء الشعر عند أمل دنقل أمست تهزنا هزاً عنيفاً أكثر من غيرها من المفردات والكلمات الوالغة في حمأة الرومانتيكية تلك المفردات التي مجها ذوق الإنسان العربي المعاصر!
إن أمل دنقل هو الشاعر الأكثر حساسية تجاه التفاصيل الصغيرة بين مجايليه ، استطاع ببصيرته الشعرية وبعبقريته الفذة ، ورؤيته الحادة أن يؤسس خطاباً شعرياً يتماهى بحميمية باذخة الحضور مع اليومي والعادي والمألوف والهامشي ، دون أن يهبط بهذا الخطاب إلى مستوى الشعار الأيديولوجي المباشر الأجوف.
إن عبقرية أمل دنقل لا تكمن في (شعرنة) التفاصيل الصغيرة آنفة الذكر وحسب ، بل إنها تمتثل في كونه شاعراً رائياً ، ضالعاً في البصيرة ، يسعى بكل ما أوتي من فن أن يهرب بقارئه باتجاه التجلي والاستثنائية .. وتمتثل أيضا في بعض سياقاتها الدلالية إلى قدرة الشاعر على التقاط واستحضار المعاني الإنسانية النبيلة الرهيفة الأكثر شفافية .. ومن ثم توظيفها داخل النص توظيفاً جميلاً :
كل شيء تحطم في لحظة عابرة :
الصبا بهجة الأهل صوت الحصان التعرف بالضيف همهمة القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي الصلاة لكي ينزل المطر الموسمي مراوغة القلب حين يرى طائر الموت وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة.
كل شيء تحطم في نزوة فاجرة :
وتمتثل العبقرية الشعرية لدى الراحل الكبير في سياقات أخرى لا تخفى على قارئ نصوصه ، منها قدرته الفذة على استخدام القناع والرمز والأسطورة ، فقد مارس الكتابة الشعرية في هذه التقنيات بتجل مذهل واستثنائية فريدة استطاعت أن تطلق حمائم الدهشة في وجدان المتلقي.
إن التساؤل المر الذي أطلقه أمل دنقل في قصيدته الشهيرة (مقتل كليب والوصايا العشر) :
كيف تنظر في عيني امرأة :
أنت تعرف انك لا تستطيع حمايتها في الظلام؟
كيف ترجو غداً.. لوليد ينام.
كيف تحلم أو تتغنى بمستقبل لغلام
وهو يكبر بين يديك بقلب منكس؟
إن هذا التساؤل المر يجذر في الوجدان أسى بحجم الوجع العربي ، ويجذر بحب شفيف قامة أمل دنقل فاصلة شعرية تستعصي على النسيان .. من هنا يظل حضرة صاحب السيادة محمد أمل بن دنقل بإبداعه الكبير المتخطي المتجاوز شاخصاً في ضمير الإنسان العربي وفي وجدانه وفي ذاكرته وفي ثقافته وفي وطنيته .. لقد غاب عنا رحمه الله رحمة واسعة بجسده النحيل ، وبقي حاضراً بصوته المدوي وبنشيده الهائل في وجداننا وفي ذاكرتنا لا تبرحها كلماته الصادقة ، حيث الهطول المتجدد الشفيف بكل معاني الإنسانية. لم يبق لي قبل أن أختم هذه الزاوية إلا أن أتساءل بعد مرور إحدى وعشرين سنة على رحيل أمل دنقل .. لماذا يظل شعره غير قريب من متناول أيدينا ؟ حيث إن ديوانه لا يوجد في كبريات مكتباتنا ولا حتى صغرياتها ؟ هل المسؤولية تقع على الرقيب أم أصحاب المكتبات ؟
وثمة تساؤل ثان وهو لماذا وبعد كل هذه السنوات الطويلة المليئة بشتى أنواع الدراسات النقدية حول شعره ما بين أكاديمية وغير أكاديمية .. لماذا تظل أعماله الشعرية التي تمثلها دواوينه : (مقتل القمر، البكاء بين يدي رقاء اليمامة ، تعليق على ما حدث ، العهد الآتي ، أقوال جديدة عن حرب البسوس ، أوراق الغرفة 8 ) وقصائده غير المنشورة .. أقول لماذا تظل في أيدي العابثين بمكتبة مدبولي ؟ وتأكيداً لما أراه من عبث هذه المكتبة بهذا الإرث الرائع هو الإخراج السيئ للأعمال الشعرية ، حيث لا تاريخ للطبع ولا إشارات عن الشاعر ، وحذف لمقدمة الدكتور عبد العزيز المقالح وأغلاط مطبعية لا يمكن أن تُعد ولا أن تحصى.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved