الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 21st August,2006 العدد : 167

الأثنين 27 ,رجب 1427

أساطير العنف الجديدة (3)
فاضل الربيعي *

إذا ما عدنا إلى الوراء في التاريخ القديم (الأنثروبولوجيون المتغطرسون يسمونه: تاريخ مجتمعات البدائيين) فسوف نلاحظ من قائمة أسماء الآلهة القومية في المجتمعات القديمة، وخصوصاً العربية، أنها كانت إلى حدّ ما تعبيراً عن هذا النمط من التصورات عن الآخر بوصفه عدواً.
واستناداً إلى هذه النظرة فقد جرى في عصور مختلفة من التاريخ البشري تقديس أشكال من العنف ورؤيتها كمصدر للحماية؛ أي كمصدر لاستقرار مجتمعات عاشت تاريخها الثقافي كله داخل تصورات مريعة عن الخطر والفناء والموت الذي يترصّد حياتها.
وإذا ما تخيَّلنا وجود (تاريخ مكتوب للعنف) عند الجماعات البدائية، تركته لنا في نقوش وألواح ومعتقدات وأساطير، فمن المحتمل أننا إذا ما بحثنا داخل هذا التاريخ المتخيل فسنجد صوراً متنوعة لعنف مقدس، ولكن من نمط غير مألوف لا تعرفه ثقافتنا المعاصرة، وقد لا تستطيع فهمه بدرجة كافية من الدقة.
بكلام آخر: كان العنف في المجتمعات البدائية مقدساً، سواء أكان يشكل خطراً مباشراً يستحيل مواجهة خطره أم كان عنفاً قابلاً للمُخادعة. وهو اليوم كذلك من دون تغيير تقريباً.
كل جماعة مؤمنة إذن تحلم بعنفها المقدّس الذي سوف يوفر لها فرصة النصر على الأعداء، ويصبح استخدامها له أداة مقدسة. في الماضي أصبحت المجتمعات البدائية مع الوقت مجتمعات (اقتصاد عنف) تقوم كل شروطها الحياتية (الوجودية) على فعاليته، وهي كانت تتلاشى وتتحطم أو تندثر مع تدهور حالة هذا الاقتصاد، وبالتالي تفكك وتآكل آلياته أو فشل ديناميكياته الداخلية في الحفاظ على حياة الجماعة المؤمنة. عندما تكف فعالية هذا العنف عن أداء المطلوب منها فسوف تتلاشى القدسية.
ثانياً: مجتمع الإفراط في العنف
على الطرف الآخر ثمة مجتمع يقوم على الإفراط في (إنتاج العنف). وفي الواقع، فإن مجتمعات اقتصاد العنف غالباً ما تشهد، وفي مراحل مختلفة من تطورها التاريخي، نوعاً من الانحراف أو الشذوذ في أشكال تطبيق قانون استخدام القوة بين الأفراد والجماعات.
إن القانون الطبيعي (العرفي) الذي يسود مجتمع اقتصاد العنف البدائي والحديث أيضاً هو القانون الوحيد غير المكتوب الذي يسمح فيه، من جانب الدولة أو القبيلة، بقدر ما من العنف من أجل نشر الاستقرار أو ضمانه. بيد أن قدرة الأفراد والجماعات على حماية هذا القانون من الانتهاك تظل محدودة، وهم لذلك غالباً ما يلجؤون إلى نوع من الانتهاك الجماعي للدستور الذي يحكم العلاقات بينهم، وذلك حين يبلغ انتهاك الأفراد كل من جانبه حداً يستحيل معه ضمان أي نوع من الاستقرار. ولذلك ومن أجل إعادة صياغة قانون جديد ينظم العلاقات تلجأ الجماعة بكل أفرادها إلى القتال واستخدام العنف ضد بعضها البعض. وهذا ما نراه في الصور الآسرة لحروب البسوس وداحس والغبراء في الأساطير العربية القديمة.
في هذا النطاق درس الإخباريون العرب الكلاسيكيون في مؤلفاتهم التي لم تصلنا، واستند إليها الطبري والأزرقي (تاريخ مكة) والفاكهي (تاريخ مكة في قديم الدهر وحديثه)، وعلى وجه أخصّ عبيد بن شرية الجُرْهُمي (في أخبار اليمن) تجربة العنف الذي استخدمته قبيلة جُرْهُم ضد العماليق في مكة (ضد القبائل الضعيفة التي قُدِّر لها العيش تحت سلطتهم بعد زوال حكم العماليق)، وكيف أن هؤلاء (طغوا في الحرم)؛ أي استبدوا وأفرطوا في استخدام القوة. وهذا تعبير غالباً ما يتردد في مؤلفات الإخباريين العرب القدماء في إشارة إلى سطوة قبيلة جُرْهُم وإفراطها في استخدام العنف كوسيلة للسيطرة على القبائل الأخرى، بوصفه أداة لنشر نمط من الاستقرار في المكان المقدس.
ويتبيَّن من جملة نصوص قديمة عالجها هؤلاء أن الصراع بين القبائل حول المكان المقدّس ظل يتمحور حول المعتقدات القديمة ذاتها ولم يتزحزح إلا مع الإسلام، وأن العبادات لم تدخل إلا في نطاق محدود للغاية في قلب هذا الصراع. ولكن في وقتٍ تالٍ بدا أنه يتمركز كلياً تقريباً حول أشكال السيطرة. كان العنف وسيلة وحيدة أو مثلى لفرض السيطرة، ولذا أصبح في مجتمع تحكمه شروط الشورى القديمة وتقاليد البداوة ومنتديات القبائل ومواعظ الحكماء والشيوخ والكهان موضوعاً من موضوعات الصراع.. ذلك ما يفسر لنا السر وراء الإجماع القبلي الذي حدث في وقتٍ ما لطرد العماليق من مكة بعد أن طغوا في الحرم؛ أي بعد أن أشاعوا نمطاً مفرطاً وشاذاً من العنف تجاوز الحدود التي يسمح بها المجتمع، كما أشاعوا أشكالاً مروّعة من العنف الطقوسي في مجتمع قبائل كانت تستعد للانتقال من الوثنية إلى التوحيد.
ثالثاً: مجتمع الأضاحي
إذا كان مجتمع العرب البدائيين (القبائل العربية البائدة حسب التوصيف العربي الكلاسيكي) الذي نشأ وعاش وتلاشى تالياً بوصفه مجتمعاً نموذجياً من مجتمعات (اقتصاد العنف) القديمة؛ بمعنى أن الأفراد فيه يعيشون تاريخهم كاملاً بوصفه تاريخ خوف وهلع جماعيين من الشر الأسطوري؛ فإن المجتمع العربي المعاصر يبدو في استمراريته الثقافية في المقابل (كمجتمع أضاحي) نموذجي، تلعب فيه الضحية دورها كاملاً ككائن نذر نفسه من أجل أن يبلغ الهدف الوحيد الذي رسمه: أن يصبح ضحية مقدسة لأجل نفسه ومن أجل الآخر.
كل ضحية ستقدم نفسها من أجل آخر.. إنها تهبه نفسها قرباناً لتتحرر هي من عبودية وجودها، وهي لأجل أن تبلغ هذا الهدف ستذهب إلى حتفها مؤمنة بأنها وبفضل هذا النوع من العمل إنما تنال ما لا تستطيع الحصول عليه في حياتها الدنيوية. ولكن الضحايا ليسوا دائماً في الوضع ذاته، وبعضهم غالباً ما يصبحون هدفاً عشوائياً لعنف هائج يرغمهم على أن يتنازلوا عن امتياز وجودهم. إن الهياج الجماهيري الذي صاحب عملية الإطاحة بالنظام الملكي في العراق في الخمسينيات من القرن الماضي يفصح عن هذا القدر من التلازم بين العنف والأضحية؛ فليس ثمة من عنف من دون أضحية. لكي يصبح العنف عنفاً لا بد من أضحية. وفي المقابل ليس ثمة من أضحية دون عنف. ولكي يصبح العنف عنفاً؛ أي لكي يستكمل صورته وينمو ويترعرع ككائن، فلا بدَّ من أضحية تكون وظيفتها الحقيقية والكلية هي مساعدته على النمو والظهور. إن قوة العنف تظل رهناً بقدرة الأضحية على تزويده بمصادر قوته؛ أي دمها. والعكس صحيح؛ فالأضحية تستمد من العنف خلودها وديمومتها. ولذلك يبدو التلازم وثيقاً بشكل تستحيل معه أي محاولة للتفكيك. والأمر من هذه الناحية شبيه إلى حد بعيد بالتلازم الوثيق بين البطولة والجريمة؛ إذ من دون جريمة لا يمكن توقع ظهور البطل. إن البطل يصبح بطلاً في أنظارنا في اللحظة التي يتمكن فيها من إنجاز وتحقيق (جريمته) التي هي من وجهة نظرنا - نحن أنصاره وعشاقه - عمل خارق واستثنائي، فيما هي من وجهة نظر خصومه وضحاياه (جريمة). إن ما نسميه جريمة هو في نظر الآخر (بطولة)، وما يسميه الآخر (بطولة) نسميه نحن (جريمة).
في رواية دستويفسكي الشهيرة (الجريمة والعقاب) يتساءل المحقق وهو ينظر إلى راسكلينكوف مندهشاً من إصراره على أنه قتل المرأة العجوز بدافع سرقة المال: ولكنك تؤمن أن البطل لن يصبح بطلاً من دون أن يسير فوق الجثث؟ أنت لم تقتل بدافع سرقة المال، بل من أجل أن تصبح بطلاً على غرار نابليون بونابرت. في هذا المقطع من الرواية سوف يتضح بجلاء أن العلاقة الملتبسة بين البطولة والجريمة هي من الطراز نفسه الذي يمكن حصره وتصنيفه أنطولوجياً في نطاق التنازع الأزلي بين البطل والمجرم. كلاهما ينازع الآخر على امتيازه، تماماً كما تتنازع البطولة والجريمة في المسرح ذاته. فهل البطولة نوع من جريمة تنكَّرت وتستَّرت في رداء بطولي من أجل خداعنا؟ وأن الجريمة ليست في النهاية سوى نوع من (بطولة) تنكَّرت وتستَّرت في رداء الإجرام؟ ومتى يصبح البطل بطلاً ونستطيع تمييز وجهه بدقة كافية؟ ومتى في المقابل يصبح المجرم مجرماً وإلى الدرجة التي نستطيع تمييزه من دون الحاجة إلى دليل؟ هل البطولة جريمة ناقصة لم تكتمل فانحرفت وغيرت من مسارها، بينما الجريمة نوع من بطولة ناقصة شاذة ومنحرفة؟


* دمشق

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved