الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 21st August,2006 العدد : 167

الأثنين 27 ,رجب 1427

سقوط الطائر الأسطوري
قاسم حول

لم يكن لدينا مقر لكي نقوم بالتمرينات المسرحية، فاتخذنا من منزل رئيس فرقتنا المسرحية في بغداد مقرا لإجراء تلك التمرينات (البروفات) المسرحية. كان ذلك في أوائل الستينات من القرن الماضي. ويوما جاء ابن رئيس الفرقة المسرحية من المدرسة وكان عمره ثماني سنوات وقد رسب بالامتحان المدرسي، والعراقيون لا يستعملون تعبير راسب إنما يستعملون تعبير ساقط. فيقولون سقط فلان بامتحان المدرسة النهائي. وعندما دخل الصغير وخشية أن يبدأ البكاء لسقوطه في الامتحان ويعكر علينا التمرينات المسرحية، فلقد ناوله صديقي الممثل مكي البدري دينارا وأعطيته أنا دينارا آخر، وسكت دون أن يبكي لكنه ظن بأن السقوط هو أفضل من النجاح بدليل أننا باركنا سقوطه بدينارين. وعندما جاء الامتحان الثاني وكنا أيضا في تمرينات مسرحية كان قد سقط في الامتحان فسمعناه في الشارع راكضا نحو البيت وهو يصرخ فرحا.. ساقط.. ساقط.
إبان حكم الدكتاتور العراقي ذهب الكثير من الشعراء والكتاب والفنانين العرب إلى العراق تحت ذريعة فك الحصار عن الشعب العراقي ودعم الشعب العراقي في مجابهة الحصار. لم يكن الحصار هو الدافع ولا الشعب العراقي هو الدافع بل كان الدافع تلك الحقيبة السمسونايت السوداء التي كانت بداخلها رزم خضراء وعليها رقم 100$ وبداخل الحقيبة ساعة فيها صورة الدكتاتور. ومع وجود صورة الدكتاتور إلا أن وجود الساعة له دلالة الزمن الصعب والقاسي الذي يعيشه الإنسان. (أنا أحمل معي أينما هجرت بدون حقيبة، أحمل معي ساعة منضدية صغيرة معجب بتصميمها جدا ومعها تمثال زجاجي صغير لديك ملون أضعه أمام الساعة، وأضعهما أمامي أينما حللت. الساعة رمز الزمن والديك رمز اليقظة). رحلات المثقفين العرب باتجاه نظام الدكتاتور فيما زملاء الإبداع، نحن، كنا جياعا ولجأنا عند اللاجئين، سفر أولئك المثقفين العرب نحو وطني العراق ونحن في المنفي دونما وثيقة سفر ودونما رسائل للأهل لهم ومنهم، يذكرني ذلك السقوط بسقوط الطالب الذي صرخ فرحا (ساقط) حتى يحصل منا على ثمن سقوطه. الفرق أن الطالب الصغير كان بريئا ولا يعرف للزمن حسابا وكانت مزحة تم تصحيحها لاحقا، أما المثقفون العرب فإن موقفهم لا يندرج ضمن المزحة وللزمن حساباته نحوهم.
اليوم سقط الدكتاتور.. سقط وسقط معه تاريخ وأخشى أن تسقط الجغرافيا مع التاريخ ويدي على قلبي وأبتهل إلى الله سبحانه أن يحفظ الوطن من كل سوء، تظهر على الساحة نماذج جديدة من الفنانين الذين وجدوا في فوضى العراق السياسية فوضى سياحية فذهبت شركات وفضائيات وفضائيون وكاميرات وصرنا لا نعرف الكاميرا من البندقية وصار صعب علينا فرزهما لكثر ما تداخلا في المشهد. يغتني الساقطون الجدد الذين ظنوا أن السقوط هو النجاح في امتحان الحياة وبقينا نحن في العوز والصعوبة ولكن بنجاح الروح.. عيوننا ترصد الوطن وما يجري فيه ولا حول لنا ولا قوة فالماكنة أكبر من الحلم سيما عندما يصبح الحلم صغيرا كأن نزور قبور الأهل ونسلم على الباقين.
لا فرصة للعمل، ولا فرصة للإبداع. نشحذ الموافقات ونصرخ في المواقع الإلكترونية، ولكثر ما ازدحمت المواقع بالشكاوى والمقالات صارت المقالات لا تقرأ وفقدت تأثيرها على المتلقي لا ندري نحدث من ومن هو المخول بالسمع ومتى يتلطف بالاستماع إلينا.. نحن شعب كامل خارج حدود التاريخ القديم والمعاصر، وخارج حدود الجغرافيا وعددنا لم ينقص كثيرا عما كان عليه إبان حكم الدكتاتور، كان العدد يربو على الثلاثة ملايين فأصبح في حدود الثلاثة ملايين، فلم يعد إلى الوطن سوى هذا ال (يربو على..). وفي الأوطان التي نحمل جنسياتها، نحن مواطنون من الدرجة الثانية فالمواطنة منحت لنا بقرار وقد تسحب منا بقرار (وأبي قال لي مرة.. الذي ما له وطن.. ما له في الثرى ضريح).
عندما كنا نجابه الدكتاتور والدكتاتورية ونعيش ظروفا تاريخية من العوز والحرمان حد الفاقة سيما بعد أن أجبرنا على مغادرة لبنان وذهبنا إلى الشام وصرنا نعيش بدون تلك المكافأة التي كنا نأخذها من اللاجئين كان ثمة شاب مهندس يعشق الأدب والفن. كان يمر وهو في طريقه من الدار إلى مقهى الروضة بدمشق على عمارة يتم بناؤها وترتفع حتى بلغت طوابقها الستة. ذات يوم وهو يرى العمارة لا تزال هيكلا صعد على سلالمها سلمة بعد أخرى حتى أصبح في سطح العمارة فوق الطابق السادس ومن هناك ألقى بنفسه ومات.
ثمة طير أسطوري بحجم الإصبع، وهو طائر شفاف يحلق عاليا عاليا في الفضاء ويصبح لونه تارة بلون السماء وتارة بلون الغيوم لشفافيته. لا تطاله النسور ولا يمكنها افتراسه لأنها لا تراه ولا يمكنها الارتقاء إليه لارتفاعه في الأعالي. عندما يريد أن ينام يطوي جناحيه وينام فوقهما ويظل سابحا في الفضاء. لا يسقط من ارتقائه من الفضاء إلى الأرض سوى مرة واحدة، عندما يموت!
وحقيقة الأمر أنه لا يسقط عندما يموت، بل أنه يموت عندما يسقط!


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved