الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 21st August,2006 العدد : 167

الأثنين 27 ,رجب 1427

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي
للجراح ريش.. وللرياح وكر
نقيب حمد حميد الرشيدي
75 صفحة من القطع المتوسط

الجراح لها أجنحة تنبت ريشا.. والرياح لها وكر ينفض عنه غبار الصمت وينشره ساحقا ماحقا.. الأعاصير ولادة رياح.. والطوفان الطاغي ولادلة رياح.. وجنون الغضب.. وجنون الحروب ولادة رياح كامنة في صدور من لا يستهويهم الحب.. وينعشون سعار الحرب..
الرياح صوت طبيعة غاضبة.. كما أنها صوت طبع متمرد على حقيقة الانسان السليمة.. والمسالمة..
الرشيدي.. لعله يرشدنا بجراح ريشه.. ورياح وكره.. ويوصلنا جميعاً معه إلى مبتغاه..
ترنيمة الوطن.. وطينة التراب.. يقول فيها:
أقم للشعر أمسية
منابرها السعودية
وغنِّ لمجد هذه الأ
رض ملحمة بطولية
وقل: أيها الشادي
طهارتها الترابية
جميل أن نقول.. واجمل منه ان نرفع بصوتها إلى مرحلة عمل تؤكد.. وتجذر معاني.. وما اعني من قول:
تيمّمها صعيدا طيبا
بخضر قدسية
وعانقها ينابيعاً
بلهفتك السرابية
أدرها كالمرايا في
ملامحك الفضولية
يا عزيزي.. لا تريد لهفة سرابية.. دائما لهفة شرابية تدفع إلى ورود المورد. كما لا تريد ملامح فضولية، وإنما ملامح رجولية.. أليست الأرض
هي الأرض التي سكن
تك خصبا وانتمائية
فما أكل الجراد بها
نضارتك الربيعية!
الجراد فينا من ينتظره في لهفة وشوق ليأكله.. الآكل مأكول.. وما هو غير معقول معقول! وما هو غير مقبول مقبول.. هكذا أمزجة البشر وأذواقهم..
هي الأرض التي احتضنت
براءتك الطفولية
فكانت نكهة الماضي
وبهجة الحضورية
وربما بعده عنها صعَّد حنينه لها وهو الشاعر:
وما زلنا نحنُّ إلى
قوافيها الخليلية
ترنم يا نديم الشعر
منتشيا بعفوية
القصيدة تعاني من بعض التقريرية.. ومع هذا فهي مليئة بصور الحب.. نبرحها إلى حيث النداءات..
أنتَ يا من تسرح الخيل على فنجان قهوه
وتجاري ذعرها الشاكي على منقل حجر
هاك وجها في عيون الليل خدش يتسلل
هاك قلباً عربياً بين ذبيان وعبس
كتشظي النور عن تيجان إبل..
هكذا يحن العربي إلى أصله.. إلى قديمه.. إلى مرابع ومراتع صبوته إلى الصحراء.. والخيمة.. ومناقل الحجر والجمال والجبال يستعيد بها صورة الماضي.. إلا أنه سرعان ما يقفز بنا إلى عالم آخر..
انت يا من تستحث الخيل في حلبة يعرب
لا تصفق.. لا تقل داحس يسبق
أو به الغبراء تلحق دعهما يا صاحبي
يئدا الاحقاد في ميدانها
لا تجدل عقد الثارات في أحفادنا
جميلة هذه النقلة الشعورية التي أخرجته من ربقة التاريخ المعاكس.. إلى وجه التاريخ المشاكس الذي يأبى إلا أن يكون صوت حب لا صوت صراع.. وشحناء أثارته العواطف الرعناء في مرحلة غياب عقل وبناء.
الصعلكة (محطة جديدة)..
يا بنت الجلاد الأسود في بيتكم الأسواط تنض دما
وأبوكِ على شفتيه يطن ذباب الأرواح الأزرق
وأنا أنشد..!
(مضناك جفاه مرقده.. وبكاه.. ورحم عوده..)
يُرجع لنا أغنية عبدالوهاب كجواب.. وخطاب لابنته ذلك القاسي الذي لا يرحم.. إنه يطرح المشهد كاملا أمام عينيها:
العمر نسيج على أبواب مدينتكم
والدرب عنيف مثل أبيك الفطر المستبعد
بالله عليك اغيثيني إني بدوي رحال
لا أملك غير عصاتي ومسجاحي
هاتي سلكا من سوط أبيك الإرهابي
هاتي من شاربه إبره
خيطي ثوبي المقدور على ظهري
ذرِّي قيصوم الحرة في بقيا نفسي
الصورة قرأتها كما أريد.. خيبر وحرتها حيث كان لليهود غدر وخيانة ونكثان عهد في الماضي.. وحيث لهم في الحاضر دموية وحشية واخلاف وعد وهو ما أعنيه. والصورة قرأتها كما يريد هو أيضا في وجهها الثاني حيث المشهد الحياتي لشاعرنا الذي عاشه في أودية ثمد يكابد.. ويعاني ويغني.. ويجادل حبه الذي استعصى عليه.
بالله عليك استقصي أوجاعي
زقي لي من أشواك دروبي المسمومة يا سيدتي
يا مرآة الوجه المنسي من الزمن العاتي
بالأمس كانت مذكورة تتطلع إلى غيرها من الأعلى.. وتخلى عنها الأعلى إلى الأسفل مع دورة الزمن الذي لا يرحم.. ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع..!
(حمى الليل) اصابتنا بالقدر الذي أصابته من الرعشة
ويأتي الليل محموما.. وئيد الخطو
يغشى حبنا الشرقي بأجنحة غرابية
وفي حجب الغروب يدس قرص الشمس
فتندثر الشوارع تحت أشلاء الدجى الحالك
لوحة فوتوغرافية رسمها الشاعر لحظة مغيب نهار وقدوم ليل موحش يمزق صمته أحياناً أنين أجساد مصابة بحمى الليل.. وحينها يذوب الصمت في دوامة الهذيان.. مع هذا الإحساس بلهث الأنفاس يبحث عن صوت قلم يصرخ بالشكوى.. ويرسم المشهد الشاكي من حوله..
اسل يدي إلى قلمي ومحبرتي
لأكتب أحرفاً ولدت على شفتي قبيل الموت
فتنتفضني ارتعاشات كغصن في مهب الريح
ويسقط من يدي قلمي.. ومحبرتي..
أمام العجز عن طرح الشكوى.. وتوصيف الحالة تكتمل الصورة.. وتنطق ولكن في صمت.. اتجاوز بكم الغربة السوداء.. لأن لا غربة بيضاء.. الغربة وحدة انسان.. ووحشة مكان.. ومتاهة زمان.. عزَّ علينا أن يبتلعنا التيه ونتوه في دروبها السرابية.. شاعرنا الرشيدي توسد رصيفه الثاني وهو يتأوه وجعا:
غريب انادي بفرط الأسى
وفي مقلتي دمعة جامدة
إلى أين يا مركبا ضمني
تقاذفك الابحر الباردة؟
إلام وأنت رفيق الرحيل
وعنك عيون الهدى راقدة؟
أترضى الممات غريبا، ولن
يُصلى على روحك الصاعدة؟
يكفنك البحر في ظلمه
على الرغم من عينه الشاهدة؟
بهذه الحيرة والتساؤل يبحث عن جواب يجيبه عن حيرته الشاردة:
فكيف أناشد فيك البقاء
وروح الفناء هي السائدة؟
فناء الجسد حقيقة.. وفناء الروح نحن المسؤولون عنه.. يقظة الضمير تملك عودة الروح والجسد معا.. ملاحظة (إلام) احسب أن صحة كتابتها تأتي (إلى م)..
(للجراح ريش.. وللرياح وكر) العنوان للديوان:
كلما هزت رياح العشق جذعا خلت أني
ألمس الأرض وأنفاسي جناح
وجراحي بعض ريش ساقط
من على وكر الرياح
وأراك حين تأتين إليَّ من بعيد
هاجساً ينفضني من غبار الأسئلة
لماذا هذا الخوف ولا أقول الانهزام؟ حين تنتفض الريح تنتفض معها أسئلة كبيرة عن درء أخطارها.. فالحياة إرادة أقوى من عاصفة موقوتة سرعان ما تزول.. لا أريد لغبار أسئلتك أن تتوارى تحت ستار الخشبة.. فجِّر في عينيك الدموع.. وأطلق من لسانك الأسئلة تجد الجواب عليها من داخل وعيك..
نتجاوز وإياكم بعض محطات الديوان.. وننتقل دون أن ننفعل فالجادة تأخذنا نحو مرتفعات تضاريس الوجه الراحل.. التضاريس وعره..
يا ضياعا فيك ماء الوجه ضحل.. أين اخلو
في زحام وقته أضاع شاعرنا خرائطه.. وعناوينه القديمة:
آه.. ضيَّعت الأدلة.. والمرايا أجنبيه
غترتي طارت بها موجات ريح تتزين
وعقالي.. آه ماذا عن عقالي؟!
انه مشنقة العصر الغبية..
العقال ليس ذنبا.. نعلق على دائرته السوداء كل اسقاطاتنا.. العقال عقل لو حررناه عن قيد حركته ما أمكن له أن يشنق.. ولا أن يهتز أمام رياح التتر، والمغول.. القدامى منهم والمحدثين.. مشكلة عالمنا المستضعف أنه لا يذكر شيئاً.. ولا يحاول أن يذكر شيئاً.
لم أعد أذكر شيئا
غير أني صفعة النسيان في وجه الحقيقة
حين تصفع الحقيقة وجه النسيان نذكر كل الأشياء دون تذكير.. (قراءة في سفر ابن يعقوب) نقرؤها معه:
أيا سيدي.. وللسجن في داخلي ألف نافذة نصف مفتوحة
كأفواه تلك الذئاب البريئة من دمك المدَّعى
يا سيدي.. رأيتك فيما يرى النائم
وليل الردى كضرير تحسس في مقلتي عصاه
لتغشاهما حمرة الشفق الرمدي الذي يتثاءب فجرا
وراء نوافذ سجني التي ينتهي عند قضبانها عالمي
فخذ بي.. ودع نورك المتجلي يضيء سراديب حزني
هكذا شاهد وهو يستغرق حلمه ابن يعقوب وقد فرد شراع نوره في الأفق الواسع.. يوسف السجين.. والأمين. والمختصر ملك إرادته قادم الغي.. والمؤتمرين به.. انتصر.. أعطى لنا درسا مستفادا.. هلا أخذ به شاعرنا دون أن يستنجد..؟ البكاء أمام عتبة الماضي لا تجدي.
(الخروج من الذاكرة) عنوان قاتل.. احسبه بداية موت.. لا حياة من دون ذاكرة..
كهوفا تملأ الطرقات أعيننا
دفوفا يقرع الترحال أرجلنا
تلبدنا ذيول الخوف
تسحلنا على آثار من ضلوا
وراحوا يمضغون حثالة الشكوى
وفي المنفى يكدسنا هراء الوقت تاريخا بلا جدوى
من لا يملك ذاكرة لا يتذكر.. وانت بذاكرتك تطرح مشهد الشكوى تذكر به.. ولكن في يأس لا اتقبله.. وفي بؤس لا ارتضيه لك.. نعم للحياة وجه جامد معتم كالليل.. ووجه باسم جميل كالنهار.. وكالأقمار.. وكالأطيار التي تغرد.. خذ وجهها المشرق ولو في بعض أوتارك.. رجِّع للحياة. ومن الحياة لحنا يمنحنا وإياك رحلة عبور تأخذ من ألم إلى أمل.. ومن أمل إلى ألم.. الوجع دائما يضني.. ويغني..
أيحملنا حمار الوقت أسفاراً معقدة
عتيق سرها عنا.. بليد جرحها منا..
لندع الحمار.. وحمله.. نحن الذين نتحمل وزر ما لا نسترجعه، ولا نرجعه. (ماء، ودماء) حائر هذا العنوان.. فهل يبقي لنا شاعرنا الرشيدي رواء الماء. ويعفينا من حمرة الدماء؟.. مقاطع من قصيدته:
تمازحني الحياة ولست أدري
ألون العمر ماء.. أم دماء؟
كطفل بالدمى يلهو بليدا
وفي أظفاره نار وماء!
عجيب بين خلق الله طبعي
دوائي في عيون الغير داء
نفضت غلالة الأحلام ريشا
وعش العمر ينسجه الهراء
وفي قنوت يمزجه شيء من القنوط يتوجه إلى قدره حائرا لا يدري إلى أين يتجه:
بسطت يدي اليك فكنت أشقى
من الأيدي التي بسط الشقاء
تمزقني الظنون وليت شعري
أكلي منك خوف أم رجاء؟
تساؤل عميق.. وخطاب شعري جميل فيه الصراع بين عقله وقلبه أيهما يأخذه معك.. الحيرة أحيانا رسالة يقظة.. أحاول جاهدا أن أتلمس عبر المسيرة محطة أو أكثر نسعد بشقاوتها معه.. ونشقى بسعادتها معه.. في كلتا الحالتين كان للرشيدي صوت مطبوع ومسموع..
(لغة العيون) شدتنا بصورتها:
عطفا عليَّ بهذه النظرات
لا تفجعي المسكين بالعبرات
ارجوك غضي الطرف اني عاشق
قرأ العيون وراء عشر لغات
فلق الهوى العذري حبة قلبه
فأسال دمعا انبت الحسرات
قد كان يحلم باللقاء فراعه
شبح النوى في غمرة السكرات
ما عاد يعرف أين يعتق عمره
هذا السقيم بمفرق الطرقات
ماذا جرى قد قالها وفؤاده
يخبو لمصباح الظلام الشاتي!
حمل الجراح وراح ينقش حزنه
سرا يئن على رحى الخطوات
حتى الحب الذي أحببناه.. وانتظرناه.. وتمنيناه ذهب في مهب الريح.. ماذا أبقيت لنا في رحلتنا الشيقة معك غير أشواك لا تجرح.. وأشواق لا تبرح مكانها.. (البعد الآخر) يقول فيها:
يراوغني وجهك الزئبقي
وكل طريق إليك شقي
تئن الخطى والنوى بيننا
أصم يحملق كالأحمق
أما كان يا صاحس ذاك الطريق
اليك انتهى فمتى نلتقي؟
صور وجدانية رائعة في وصفها.. وفي توظيفها لمفرداتها أختمها بهذين البيتين المعبرين:
أيا صاحبي والمودة غيض
نفيض من الزمن المهرق
كثير بحقك مني القليل
وانت أقل كثير بقي
أخيراً مع خاتمة ديوانه (لزومية مالا يلزم) التي ذكرني بها لزومات مالا يلزم لرهين المحبسين الفيلسوف والحكيم أبي العلاء المعري:
لقد خانتك يا صاح التجارب
وغرتك الأماني بالمآرب
ظمئت فكنت اظمأ من سراب
ووجهك مبحر كشراع قارب
تقاذفك الرياح ولست تدري
أأنت إلى مشارق أم مغارب؟
وحولك من بني الدنيا رعاع
أقاربهم كما قالوا عقارب
على الأحقاد والبغضاء عاشوا
لئاما يفتلون لها الشوارب
يسرون العداوة في قلوب
تنوء بسودها سود الغوارب
أباعدهم عليك وعيد شر
وما أشقاك منهم بالأقارب
فإن سالمت فاحذرهم عدوا
وان حاربت فاعرف من تحارب
بهذه المقطوعة الساخنة في نبراتها، الدافئة في صدق دلالاتها يتوقف ركب الرحلة..
وللصدق.. ودون مجاملة فلقد قرأت مجموعة شاعرنا الموهوب حمد حميد الرشيدي وخرجت من قراءتي لها بمجموعة جمل جميلة تنم عن مقدرة في رسم الصورة الشعرية.. وشحنها بأدوات التعبير الموصلة إلى المضمون مباشرة دون افتعال.. أو سرد ممل يخل بجمالياتها.. مجموعة قصائد قصيرة.. إلا أنها متكاملة تمثل رؤية شاعر اختار في شعره أن يحتار.. لا للحيرة نفسها.. وإنما لتوظيف حيرته كخبرة.. وتجربة ساخنة لا تؤذي.. وإنما تؤدي إلى مفهوم الوعي الحياتي الذي ينشده..


الرياض ص.ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved