ومهما يكن من أمر فإن في نشر الذكريات من الإسعاد والوفاء ما يبهج بقدر ما يشجي ويحزن، وليس في تجرع أكؤس المرارة فضل تجرع كأس عن كأس ولعل في البحث عن بعض ملامح الذكريات العزاء والسلوى. فقد عرفت الزميل الراحل عندما قدم مع ثلة ممن هم في مثل سنه من بلدهم (الرس) للتعليم في المدارس الابتدائية التي بدأت تنتشر في الرياض - آنذاك - في أواخر الستينات الهجرية التي افتتحت للتو.. كان هو والزميل الصديق الشاعر صالح بن حمد المالك وأخوه الزميل الأستاذ منصور بن حمد المالك، وعدد آخر غاب عني تذكر أسمائهم فكانوا هم اللبنة الأولى في بناء صرح وظائف التدريس للمواطنين الأوائل في المدارس الابتدائية لما يتمتعون به من قدرة تعتبر كبيرة حينذاك. |
كان من بينهم ذلك الشخص الأنيق الرزين ذو الثياب والمظهر الحسن النظيف والملازم لارتداء عباءته السوداء الجميلة، وعرفت أنه يُدعى (محمد المسيطير)، كان يأتي بمفرده إلى ميدان (دخنة) قاصداً المجمعات السكنية لطلبه العلم (رباط الإخوان).. كان يزور أو يأوي في ذلك السكن إلى مجموعة من أقاربه وأصدقائه من طلبة العلم وممن يكبرونه سناً، بينهم - فيما أتذكر - (صالح الغصون) و(صالح الخليفة) و(عبدالله الغفيلي) و(حمد الزعاقي) و(حسن بن مانع) و(عبدالله بن حمد الأحسائي). |
كنت أراه عندما أزور تلك الأماكن يجالس القوم ملازماً لهم في غرفهم المفتوحة يتدارسون بعض الكتب النادر وجودها - آنذاك - التي كانت تأتي من مصر حديثة الطباعة وتوزع مجاناً على طلبة العلم مثل كتاب (فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد) و(روضة العقلاء) و(روضة المحبين) وبعض الدواوين الشعرين المتداولة وكان بين أولئك الفريق مَنْ يهتم بالشعر ويحفظ الكثير منه ويتغنى بإلقائه في تلك الحلقات أمثال حسن بن مانع الأحسائي، وعبدالله بن حمد. |
كان الأستاذ محمد المسيطير يغشى تلك المجالس مع شاب آخر عرفته فيما بعد وهو من مشاهير القوم اليوم الدكتور صالح بن عبدالله المالك الأمين العام لمجلس الشورى.. كان الاثنان يتحليان بخلق رفيع ويبدوان في مظهر حسن، وكانا يحضران حلقات الدرس الوحيدة في مدينة الرياض التي كانت تعقد ثلاث مرات في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم، لكني لا أعلم يقيناً عن ملازمتهما لتلك الحلقة أو انتسابهما إلى دراسة بعض العلوم على الشيخ، وهل كانا يحضران لمجرد الاستفادة أم لمجرد الاهتمام وحب الاستطلاع؟ أم كان حضورهما مجاراة لبعض أقربائهما من الأعضاء البارزين في تلك الحلقة؟ |
كان يشدك إلى الزميل محمد المسيطير ما يملكه من مزايا ضرورية لاكتساب الأصدقاء.. فهو هادئ الطبع، مهذب التعامل، يستمع إليك أكثر مما يحدثك، فإذا استنطقته أعجبك نطقه، وأنست إلى حديثه، ولذلك حظي بحجم كبير من التقدير بين زملائه وعارفيه، بل بين من يريد التعرف إليه. |
فهو بحق شخصية آسرة، قليل الكلام، خفيض الصوت لكنه قوي الأداء في حديثه المليء بالأمثلة والاستشهادات لا يعترض أو يقاطع، غير أنه يبز غيره في إطلاق السخرية وإتباعها بالنكتة قادر على إزالة فروقات المجلس، يجد في كل شيء ما ينتقده دون تكلف!! |
تلك هي معرفتي به قديماً قبل أن تتوج تلك المعرفة بالزمالة في الدراسة في غرف وقاعات المعاهد والكليات، حيث كان مهتماً بثقافة العصر متابعاً لها من خلال ما يُقرأ في الصحف والمجلات والكتيبات التي كانت تردنا من خارج الحدود، لقد أدت تلك الممارسات دورها في تراكم اهتماماته وقناعاته العميقة، فهو أديب وشاعر وكاتب منذ أيام الطلب، وفيما بعد، لا تكاد تفوته مناسبة تشغل بال الناس إلا وكان لشعره فيها نصيب، ذلك الشعر الإبداعي الزاخر بالمعاني، فقد كان يصوغ شعره ونثره بلغة الأديب العارف، مما يوقرك بأنه يملك رصيداً ثقافياً تظهر آثاره في تجلياته، وهو متواضع في تعامله حساس فيما يتعلق بآداب السلوك، مثالي يحتضن الجميع ولا يستبعد أحداً، ويؤثر تلك الأخلاقيات بفعالية تامة.. كان من حوله من الزملاء يقولون شعراً، لكن شعرهم في ذلك الوقت هو أقرب إلى النظم بالنسبة إلى تفرد المسيطير بالشعر، لذا كنت أراه كثيراً يردد قول الزهاوي في تحديد قيمة الشعر: |