الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st November,2005 العدد : 130

الأثنين 19 ,شوال 1426

عزاؤنا فيك أيها الراحل
ذكريات نسوقها حولك
عبدالرحمن بن سليمان الرويشد

عندما عنَّ لي أن أسهم بكلمة تأبين للمشاركة في عزاء الصديق والزميل الأستاذ محمد بن عبدالله المسيطير حاولت جاهداً أن أستنجد بذاكرتي لتسعفني باستدعاء بعض الذكريات والمواقف التي اختزنتها في أعماقها طيلة معرفتي به فلم أجد فيما أمدتني به سوى تجدد مشاعر اللوعة والمزيد من الحزن بعد أن جفت المآقي على الفقد المفاجئ ولكن ما العمل فليس من طريق موصل سوى المفروشة أرضه بالأشواك وحجر الصوان والمفعمة كؤوسه بالمرارة، فتمثلت قول الشاعر:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
ومهما يكن من أمر فإن في نشر الذكريات من الإسعاد والوفاء ما يبهج بقدر ما يشجي ويحزن، وليس في تجرع أكؤس المرارة فضل تجرع كأس عن كأس ولعل في البحث عن بعض ملامح الذكريات العزاء والسلوى. فقد عرفت الزميل الراحل عندما قدم مع ثلة ممن هم في مثل سنه من بلدهم (الرس) للتعليم في المدارس الابتدائية التي بدأت تنتشر في الرياض - آنذاك - في أواخر الستينات الهجرية التي افتتحت للتو.. كان هو والزميل الصديق الشاعر صالح بن حمد المالك وأخوه الزميل الأستاذ منصور بن حمد المالك، وعدد آخر غاب عني تذكر أسمائهم فكانوا هم اللبنة الأولى في بناء صرح وظائف التدريس للمواطنين الأوائل في المدارس الابتدائية لما يتمتعون به من قدرة تعتبر كبيرة حينذاك.

كان من بينهم ذلك الشخص الأنيق الرزين ذو الثياب والمظهر الحسن النظيف والملازم لارتداء عباءته السوداء الجميلة، وعرفت أنه يُدعى (محمد المسيطير)، كان يأتي بمفرده إلى ميدان (دخنة) قاصداً المجمعات السكنية لطلبه العلم (رباط الإخوان).. كان يزور أو يأوي في ذلك السكن إلى مجموعة من أقاربه وأصدقائه من طلبة العلم وممن يكبرونه سناً، بينهم - فيما أتذكر - (صالح الغصون) و(صالح الخليفة) و(عبدالله الغفيلي) و(حمد الزعاقي) و(حسن بن مانع) و(عبدالله بن حمد الأحسائي).

كنت أراه عندما أزور تلك الأماكن يجالس القوم ملازماً لهم في غرفهم المفتوحة يتدارسون بعض الكتب النادر وجودها - آنذاك - التي كانت تأتي من مصر حديثة الطباعة وتوزع مجاناً على طلبة العلم مثل كتاب (فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد) و(روضة العقلاء) و(روضة المحبين) وبعض الدواوين الشعرين المتداولة وكان بين أولئك الفريق مَنْ يهتم بالشعر ويحفظ الكثير منه ويتغنى بإلقائه في تلك الحلقات أمثال حسن بن مانع الأحسائي، وعبدالله بن حمد.

كان الأستاذ محمد المسيطير يغشى تلك المجالس مع شاب آخر عرفته فيما بعد وهو من مشاهير القوم اليوم الدكتور صالح بن عبدالله المالك الأمين العام لمجلس الشورى.. كان الاثنان يتحليان بخلق رفيع ويبدوان في مظهر حسن، وكانا يحضران حلقات الدرس الوحيدة في مدينة الرياض التي كانت تعقد ثلاث مرات في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم، لكني لا أعلم يقيناً عن ملازمتهما لتلك الحلقة أو انتسابهما إلى دراسة بعض العلوم على الشيخ، وهل كانا يحضران لمجرد الاستفادة أم لمجرد الاهتمام وحب الاستطلاع؟ أم كان حضورهما مجاراة لبعض أقربائهما من الأعضاء البارزين في تلك الحلقة؟

كان يشدك إلى الزميل محمد المسيطير ما يملكه من مزايا ضرورية لاكتساب الأصدقاء.. فهو هادئ الطبع، مهذب التعامل، يستمع إليك أكثر مما يحدثك، فإذا استنطقته أعجبك نطقه، وأنست إلى حديثه، ولذلك حظي بحجم كبير من التقدير بين زملائه وعارفيه، بل بين من يريد التعرف إليه.

فهو بحق شخصية آسرة، قليل الكلام، خفيض الصوت لكنه قوي الأداء في حديثه المليء بالأمثلة والاستشهادات لا يعترض أو يقاطع، غير أنه يبز غيره في إطلاق السخرية وإتباعها بالنكتة قادر على إزالة فروقات المجلس، يجد في كل شيء ما ينتقده دون تكلف!!

تلك هي معرفتي به قديماً قبل أن تتوج تلك المعرفة بالزمالة في الدراسة في غرف وقاعات المعاهد والكليات، حيث كان مهتماً بثقافة العصر متابعاً لها من خلال ما يُقرأ في الصحف والمجلات والكتيبات التي كانت تردنا من خارج الحدود، لقد أدت تلك الممارسات دورها في تراكم اهتماماته وقناعاته العميقة، فهو أديب وشاعر وكاتب منذ أيام الطلب، وفيما بعد، لا تكاد تفوته مناسبة تشغل بال الناس إلا وكان لشعره فيها نصيب، ذلك الشعر الإبداعي الزاخر بالمعاني، فقد كان يصوغ شعره ونثره بلغة الأديب العارف، مما يوقرك بأنه يملك رصيداً ثقافياً تظهر آثاره في تجلياته، وهو متواضع في تعامله حساس فيما يتعلق بآداب السلوك، مثالي يحتضن الجميع ولا يستبعد أحداً، ويؤثر تلك الأخلاقيات بفعالية تامة.. كان من حوله من الزملاء يقولون شعراً، لكن شعرهم في ذلك الوقت هو أقرب إلى النظم بالنسبة إلى تفرد المسيطير بالشعر، لذا كنت أراه كثيراً يردد قول الزهاوي في تحديد قيمة الشعر:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه
فليس خليقاً أن يقال له شعرُ

كنا ونحن طلاب نستمتع بشعره، ونستمع إلى مقطوعاته ومطولاته وهو يلقيها في نادي المعهد، وكان رئيس النادي الشيخ حمد الجاسر يقدر لهذا الشاعر قدرته، ويعجب من قوة أدائه في الإلقاء لذلك كان يؤجل قصداً إلقاء قصائده لتكون خاتمة المطاف في حلقة النادي، فيضطر الحضور إلى البقاء في أماكنهم ليستمتعوا وينصتوا إلى إلقاء وشعر محمد المسيطير، ذلك الشعر الذي يزينه استلهام التمثيل للمعنى في الإلقاء.. لذا كان نادي المعهد يستقطب الكثير من سكان المدينة فضلاً عن حضور المدرسين والطلاب.. وكان من تشجيع الشيخ حمد الجاسر لذلك الشاعر أن دفع به إلى أن تربع على عرش الشعر والإلقاء في نادي المعاهد، والكليات - آنذاك -.

كان ذلك في أوائل السبعينات الهجرية، ولو بحثنا اليوم في أي صحيفة أسبوعية أو دورية تصدر في المنطقة الغربية أو في الرياض لوجدنا للشاعر المسيطير فيها قصيدة أو مقطوعة مما يبعث به مراسلو تلك الصحف، ولا سيما أنه قد كان شعره متفرداً بذكرى المناسبات الوطنية والأحداث السياسية والفكرية التي كانت تشغل مجتمع ذلك الحين مما يعد سجلاً لإنجازات الراحل في حينه.

كان الزميل محمد المسيطير من الفوج الثاني الذي تخرج في كلية الشريعة بالرياض، وكان من زملائه - آنذاك - الشيخ (عمر المترك)، والشيخ (محمد بن عثيمين)، والشيخ (فالح بن مهدي) والشيخ (إبراهيم السليمان)، والشيخ (حمود بن سبيّل)، والشيخ (عبدالعزيز أبو حيمد) والشيخ (يوسف الدغفق)، والشيخ (عبدالرحمن الخيال)، وكان أن اُختير الزميل محمد المسيطير مع مجموعة من ذلك الفوج ليكون قاضياً في إحدى المحاكم الشرعية في الدمام بالمنطقة الشرقية.. فكان لذك الاختيار أثره الكبير في اختلاطه القسري بالناس من موظفين وخصوم وأخصام، دفع بشخصيته إلى الخروج عما ألفه من انكماش، وساعده ليأخذ بزمام المبادرة في ممارسة نموذجه الحقيقي حتى أصبح في الدمام قاضياً وخطيباً للجمعة، ثم خطيباً لمسجد العيد، فحظي بتقدير كبير في خطبه الحديثة سالفة.. وأعجب أمير المنطقة الشرقية - آنذاك - الأمير سعود بن جلوي بما يتناوله الشيخ المسيطير في خطبتي الجمعة والعيد، تلك الخطب الأقرب إلى أذهان الناس وتصوراتهم، ومن هنا أصبح للأستاذ المسيطير علاقة حميمة بأمير المنطقة الشرقية، ومع كل هذه النجاحات التي حققها الزميل الراحل؛ فإنه لم يعجبه اللجام الرسمي، ووجد نفسه متبرماً حبيساً في مجال القضاء، فلم يسعه إلا أن قدم اعتذاره عن الاستمرار في وظيفة القضاء، وكان يعتقد أن المشكلة الفعلية بينه وبين ما يريد من تطلع إلى مجال التربية والتعليم هو القضاء، حيث رأى فيه حاجزاً يحول بينه وبين رغبته، وبعد إلحاح تحقق له ما أراد بعد تمنع من رئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم، ومساعدة الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم اللذين كانا يعرفان القاضي الأديب، ويقدران فيه ما يتميز به في سلك القضاء الجديد بعد أن أصبحت الكليات قادرة على تخريج علماء فقهاء محدثين.. وفي نهاية الأمر استجيب لطلبه تقديراً لخلفيته التربوية الأساسية فسمح له الانتقال إلى وزارة المعارف، وكان أول عمل باشره فيها هو تعيينه مديراً للمدرسة الثانوية الوحيدة بالرياض (مدرسة اليمامة) ثم مفتشاً في إدارة التعليم وبعد ذلك انتقل إلى ما يراه حياة نموذجية لسعادته، وليكمل مهمته التي عاش من أجلها ينبوعاً يفرغ مياهه في حدائق التربية والتعليم.. فعين مديراً لتعليم الرس.. لكنه بعد ذلك أفلت من كل الأيدي التي أرادت القبض عليه، وتعلق بالأعمال الحرة عسى أن يجد فيها ما يكفيه دون منة، ورأى في العمل الحر فضيلة لا يمكن إغفالها، ويقول إنه وجد فيه أفضل حماية له، ضد أي تبذل أو تطلع، رأى فيه قلعة منيعة قادرة على الصمود وقد بدا له بوضوح أنه سيمضي بقية حياته فيها.

هذا وقد غاب عني أن أشير في هذه العجالة إلى أن فقيدنا الزميل كان إلى جانب اهتماماته بالأدب والشعر الفصيح كان ذواقة للشعر الموازي الأصيل (الشعر النبطي)، فكان من المطلعين والعارفين به روايةً ونقداً بل كان يرى فيه قوةً في المعنى وعمقاً في القصد، وربما ترك بعض إبداعات ومقطوعات من هذا اللون الشعري الذي يحفظ الكثير منه.

ولذلك فقد راجع وصحح ومهد لدواوين شعر محلي حيث قدم وراجع لعدد من أجزاء ديوان (التميمي) عبدالله بن علي بن صقيه، أحد الرواد البارزين من شعراء نجد.. فقد قال المسيطير، إن شعر عبدالله بن صقيه لون من ألوان التراث المجيد، يعلو بك عند قراءته بمفاهيمه فينقلك إلى ميادين الاعتزاز بالأرض والنفس، ويضيف بأنه وجد في ذلك الديوان من روائع الشعر وبلاغته أنواعاً رفيعة المستوى وضرب الأمثال ووجد أن الشاعر ينقلنا فيما يقوله إلى شتى الاتجاهات، ويملأ علينا ما حولنا بهاجسه الشعري في قوة ووضوح، تجد فيه ما يمتعك ويضيء لك ما حولك صوراً واقعيةً يمزج فيها بين الحكم والأمثال، وشتى الصور الرائعة.

ويقول في الجزء الأخير من ديوان هذا الشعر المحلي:

إن شعر عبدالله بن صقيه التميمي غاية في النضج والتجارب والمعايشة، لذلك قدر له القراء تلك المعاناة والصور الإبداعية التي طرق فيها أبواب الشعر كله فأجاد، يصعد بك في شعره إلى أعلى القمم لتفرح بشروق الشمس ولتتألم لغروبها.. إلخ ما سطره أديبنا الراحل حول مزايا ذلك اللون من الشعر مما يدل على معرفته به، وتذوقه لأساليبه ومعانيه الدقيقة.

رحمك الله أيها الزميل الراحل، وأسكنك فسيح جناته، وجبر مصيبتنا فيك.. إنه على ذلك قدير.

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved