الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st November,2005 العدد : 130

الأثنين 19 ,شوال 1426

الثقافة والإعلام في محاكمة صدام 2-2
قاسم حول *

لقد وضح من خلال شكل المحاكمة أن الإعلام العراقي في منتهى الهزالة والأمية، فلم تتمكن الكاميرا العراقية ولا المصورون من تغطية فنية تجسد الفعل وردود الفعل للمتهمين القابعين في قفص الاتهام وتصوير عدد المتهمين ورصدهم ورصد ردود فعلهم المهمة ضمن إنارة فقيرة غير قادرة على كشف الحالات المتعددة والمتباينة حسب طبيعة كل شخصية، وما يساورها من الخوف أو التردد أو الوهن، ويأتي الصوت في ذات الوقت محملا بالصدى الذي يضيع بعض الكلمات إضافة إلى عدم نقاء ميكروفونات المتحدثين والحاكم وبدون سيطرة فنية على الأصوات المفردة وأجواء الصالة والموازنة بينهما.
أشياء فنية من أولويات العملية الفنية كانت مفقودة في مشهد المحاكمة الوثائقي.
كنت أتمنى لو وضعت شاشة تلفزيونية أمام المتهمين لتعرض الوثائق التي صوروها هم أنفسهم إبان حكمهم ونشروها بين الناس لتعميم حالة الرعب، عندها سوف لن تكون المحكمة بحاجة إلى شهود، لأن مثل هذه المحاكمة تمتلك خصوصية غير تقليدية فلا يجوز التعامل معها كمحكمة تقليدية عادية.
إنها تشكل موقفا تأريخيا وإنسانيا ينبغي دراسته وتوثيقه وتقديمه بشكل يتناسب وكشف الجريمة وتجسيد شخصيات منفذيها، هي محاكمة لا تخضع لقانون المحاكمات.
فالمجرم مدان مسبقا بالوثيقة المصورة والمحكمة مجرد تأكيد بشري لحقيقة مخيفة مرت في المنطقة وفي تأريخ الإنسانية.
(إن عالما يحتاج فيه المرء إلى شاهد لإثبات حقيقة واضحة كالشمس لهو عالم رديء سيئ الإدارة - هنريك أبسن) عندما نعلن أو نقول (محاكمة الدكتاتور) فإن انتظارا عمره خمسة وثلاثون عاما من القسوة والرعب تجسدها ساعة تلفزيونية تعتبر أول مواجهة قانونية وإنسانية بين قاتل دولي خطير وشعب مسكين مضطهد لم يكن قادرا حتى على تنفس الهواء النقي، فكم كان ينبغي من التحضير الفني الذي يقع على عاتق العملية الإعلامية لتصوير وإخراج مشهد المحاكمة الذي كان يفتقد إلى الإضاءة والصوت النظاميين وعدم توفير كاميرات كافية لتجسيد الشخصيات الجالسة في قفص الاتهام.
في الجانب الثقافي فكان ينبغي أن يعد ملف هام عن اغتيال الثقافة العراقية سواء التأريخية الإرثية أو الثقافة المعاصرة، وأيضا ما تعرض له المثقفون العراقيون من تنكيل واضطهاد وتشريد أدى إلى إيقاف الإنجاز الإبداعي المشروع للمثقف العراقي سواء بسبب الحيف والقسرية ضد المثقفين في داخل العراق أو بسبب الغربة والمنافي لمن تمكن من الإفلات من قبضة الدكتاتورية واختار المنفى وطنا له حيث تغرب أكثر من ثلاثة آلاف مثقف في مجال الأدب والفن طوال الخمسة والثلاثين عاما.
كما تم إعدام وتصفية وتعذيب وتشويه العديد من المثقفين لأسباب واهية شملت أساتذة في أكاديمية الفنون ومذيعات في التلفزيون وشعراء وصحفيين يعملون في مؤسسات الإعلام العراقية.
وفي مجال إلغاء الثقافة الإرثية في العراق، فإن الدكتاتور قد أمر بحفر اسمه على صخور الآثار البابلية مقدما نفسه ملكا بابليا فهو يتمثل بنبوخذ نصر، كما منح نفسه وزوجته مفاتيح المتاحف ليقدما من آثارها النادرة هدايا لضيوفهما المرموقين.
كما منح صهره صلاحية تهريب الآثار وبيعها لمتاحف العالم.
كما ألغى الدكتاتور الكثير من المناهج الدراسية ليعمم ثقافة الحرب بديلا عن المستقبل المشروع للحياة ورسم للطلاب شخصيته منقذا للأمة العربية ومحررا لأراضيها المقدسة ليلقنهم دروس الحرب والموت بديلا عن الثقافة والمعرفة.
هذا الملف كان يمكن أن يكون من الملفات المثيرة في المحكمة وأن تكون الجلسة الأولى جلسة العناوين التي ستحدث الأجيال العراقية والعربية والإنسانية في العالم عن ملفات لم يعرف التأريخ مثيلا لها في الجريمة، لكن المؤسف الذي جعل المثقفين العراقيين يقفون حيارى إزاء سلوك الحكومة العراقية إعلاميا وثقافيا الذي ينم عن عدم المعرفة في شؤون الإعلام بل ينم عن الجهل الكامل واحتقار الثقافة والإعلام على ما يبدو.
لقد اختلفت الفضائيات العراقية والعربية فيما بينهما بصدد المحاكمة فمنهم من اعتبر مطالبة المتهمين بالعقال والغترة التي نزعت من رؤوسهم دلالة الشرف العربي فيما راحت فضائيات أخرى تحتقر هذا الموقف لأن المتهمين لم يحترموا الشرف العربي ممثلا بالعقال والغترة.
لقد تركت الجرائم التأريخية ونسي دم الضحايا وخراب البلاد والمقابر الجماعية ليصبح النقاش هل يحق للمحكمة نزع العقال عن المتهم أو السماح له بالدفاع عن نفسه بعقاله؟! غياب المثقف العراقي عن واقع البلاد المتردي وغياب الطاقات الإعلامية عن البلاد تركت البلاد في فوضى تلعب فيها أهواء إعلاميين يتخذون من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية مزارا يغسلون فيه ماضيهم فهم أقرب للدكتاتورية لايزالون منهم إلى الشعب الطيب المغلوب على أمره.
كل المؤشرات وكل القراءات في المشهد الإعلامي العراقي يوضح بجلاء شكل العملية الإعلامية التي تتقاسمها الفئات التي كانت تعمل في خيمة الدكتاتور والفئات التي تساوم من أجل حفنة من الدولارات تحت مسميات مختلفة، وغاب عن الثقافة والإعلام في العراق كل الشرفاء الذين لا يريدون أن يمسوا شرف الهدف الثقافي والإعلامي بأذى.
ينبغي عراقيا أن يعود المثقفون إلى بلادهم ويفرضوا شروطهم وفي المقدمة منها تأسيس قانون الإعلام وقانون الثقافة مرفقا ببيان قسم الشرف شبيها بما وضعه أيبوقراط في القسم الطبي في الوفاء لشرف المهنة.


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved