الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st November,2005 العدد : 130

الأثنين 19 ,شوال 1426

طه حسين: رائد العقلانية و الليبرالية العربية«2»
العميد.. و(استرداد) الليبرالية
د. عبدالرزاق عيد*

في عام 1973 أصدر عبد الله العروي كتابه: (العرب والفكر التاريخي)، فكان أول صوت احتجاجي على تغرب العرب عن التاريخ من خلال تقصيه وسبره لمنطوق الايديولوجيا العربية المعاصرة التي راحت تتبدى في صيغة أن الشكل الأساسي المطروح أمام الفكر العربي هو الآتي: كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية قبل (وبدون) أن يعيش المرحلة الليبرالية(1) الأمر الذي يتيح القول: إن إخفاق استيعاب المكتسبات الليبرالية هو سبب تعثر المسيرة العربية... وذلك لأن الفكر العربي لم يستوعب مكاسب العقل الحديث من موضوعية وعقلانية وفعالية وإنسية إلخ..... لكن هذا الاستيعاب مهما تأخر، سيبقى في جدول أعمال الفكر العربي، وكلما تشابكت الأوضاع وضعفت فعالية المجتمع العربي ككل...
والعروي في استقرائه هذا يستند إلى لوكاش في تعليله لنشوء (الفكر النازي في ألمانيا)، حيث يركز لوكاش استشهاداته على أن عدم وجود مرحلة ليبرالية في حياة الأمة الألمانية بسبب إخفاق ثورة 1848 - كوّن أرضية انحراف الألمان عن التراث الأوروبي العقلاني والإنسي (أو الإنساني)، كما أن التروتكسية في انتقاداتها للبيروقراطية الروسية والاستبداد الحزبي والفردي كانت تعزو ذلك إلى انعدام تقاليد سياسية ليبرالية في روسيا.(2)
هذه الأطروحة ستشكل نواة الترسيمة النظرية للمشروع الفكري الذي دشنه ياسين الحافظ في السبعينات - كما هو معروف - وقد عبر عن مديونيته لعبد الله العروي بهذه الأطروحة، لكن ثمة قطيعة مع الميراث الليبرالي العربي منذ تلك اللحظة (الصيحة) في السبعينات التي أرادت أن تنبه - وبوعي مبكر - إلى مأزق المشروع التحرري الوطني العربي بشقيه القومي واليساري، اللذين التقيا على وأد الديموقراطية منذ ثورة 14 تموز العراقية 1958، من خلال الصراع بين الناصرية والشيوعية، حيث السحل والسحل المضاد، إذ يغيب التسامح وتدان التعددية وتغدو الحقيقة ملكا لايديولوجيا المصالح ويصبح السجن المكان الوحيد للخصم.
لقد تنبهت تاريخية العروي والحافظ منذ السبعينات إلى واقع التردي باتجاه الاستبداد بسبب الافتقار التدريجي إلى ميرات التنوير النهضوي الليبرالي، ليعقب هذه الصيحة التاريخانية - مع أواخر السبعينات وفي حقبة الثمانيات- نوع من الاستغراق في (التراثانية المحدثة) حيث النزوح الجماعي للعقل العربي (من التاريخ باتجاه التراث)، وحيث كل تيارات الحداثة العربية (الابستمولوجيا - الفينومينولوجيا، البنيوية، الماركسية) تستشعر لحظة غياب واغتراب وتضييع لل(هوية) فراحت تتبارى برثاء الخصوصية والأصالة المفقودة، والخوف من تلاشي الذات الثقافية، وضياع الأنا الحضارية للأمة العربية أمام رياح الغرب، فأتت حرب الخليج الثانية، الحرب الأمريكية لفرض انسحاب العراق من الكويت، لتظهر مدى مأزقية المشروع القوموي الشعبوي، ومدى تردي خطابه (التقنوي) اللفظي، الشعاري، الذي يراهن على السلاح كسلعة وليس على الفكر الغربي الذي أنتج هذه السلعة، فصار لدينا عسكر ولم يصر لدينا جيوش، وصار لدينا طائرات دون أن يكون لدينا طيران، وأصبح لدينا مصانع ولكن لم تصبح لدينا صناعة.... (3)
كما تكشف مدى ذاتية ورومانسية ورغبوية هذا الخطاب وتنفجه وادعاءاته الكاذبة، إذ يتبدى عن مدى عمق الهزيمة الكامنة في نسيجه المتهالك، إذ لم يستطع أن يتأسس هذا الخطاب معرفيا على التراث الحضاري والفكري للحداثة الفكرية الكونية، لهذا أتت الصيحة الثانية في بداية التسعينات احتجاجا على تحديث سلطان الايديولوجيا التقليدية من خلال تحول أهداف النهضة العربية باتجاه العكوف والانكفاء على (التراث) بعد الصيحة الأولى في السبعينات، وكانت هذه الصيحة من خلال استرداد طه حسين بوصفه رائدا للعقلانية العربية كما عبر عن ذلك كتابنا المشترك الذي توقفنا وسنتوقف عنده، بل وكرائد لليبرالية العربية كما يستحضره كتاب د. شاكر النابلسي (الليبراليون الجدد جدل فكري) الصادر في هذه السنة 2005 ذكراه، من خلال إهداء الكتاب إلى (ذكرى رائد الليبرالية العربية: طه حسين).
يتأسس مفهوم طه حسين للعلاقة ب(الآخر)، ليس وفق علاقة مثنوية (فسطاطية) بين داخل (مؤمثل) وخارج (مؤبلس)، حيث الداخل يشكل الهوية بينما الخارج يمثل الاستلاب، الداخل يعني الوطنية، والخارج يعني الاستعمار، كما آلت إليه منظومة الايديولوجيا القومية عندما استعاضت عن مصطلح (التأخر) النهضوي بمصطلح (التخلف) التنموي، إذ تبدت -عملية الاستعاضة - تظاهرات فوات حضورنا في الزمان التي تتلاءم مع حضورنا في المكان، وكأنها تظاهرات تقف عند حدود التخلف عن الركب، وليس تأخرا حضاريا وتاريخيا عن إنتاج زماننا المطابق لمكاننا المناسب المتوضع في قلب العالم الحديث.
فالانئسار للأجنبي حسب طه حسين - لا يتأتى من التهديد الخارجي فحسب بل ومن الداخل، فيقول: (فالشعب ليس معرضا للخطر الذي يأتيه من خارج حيث يغير عليه الأجنبي الطامع فحسب، ولكنه معرض للخطر الذي يأتيه من داخل حين يفتك الجهل بأخلاقه ومرافقه، ويجعله عبدا للأجنبي المتفوق عليه في العلم).(مستقبل الثقافة في مصر ص 128).
هكذا أسس العقل النهضوي التنويري لمفهوم العلاقة بالآخر، ليس عبر ثنائية التناقض بين الخارج والداخل، فهذا المفهوم لا يتجاوز حدود مفهوم الوطنية الطبيعية، الجغرافية (الملكية العقارية)، إذ حتى للحيوانات مقاطعات، مساحات، وحدود، وهي بغرائزها الطبيعية تتبادل الاعتراف ب (الأوطان) على ضوء ميزان القوى، فكل الحيوانات تهاب الاقتراب من تخوم مقاطعة النمور (أوطانها)، فالجغرافيا بين الشرق والغرب كانت بالنسبة - لطه حسين- هي جغرافيا الروح لا جغرافيا الطبيعة، وعلى هذا فإن المميز لعالم الإنسان هو العقل، وقد استوى الإنسان إنسانا بمزية ملكات العقل والفهم والعلم، ولهذا فتقسيمات عوالم البشر، وميزان قوى صراعها ونفوذها، يجب أن تستند إلى هذه المرجعية (العقلية وليس الطبيعة الغريزية) فالعدوان الخارجي إذن، عدوان داخلي، والعبودية نحو الآخر ليست في المحصلة سوى عبودية الذات في ذاتها، وذلك عندما لا تملك ذاتها العاقلة، العارفة، العالمة، عندها ستخضع لعبودية الآخر (المتفوق علميا)، من خلال عبودية الأنا التي فتك الجهل بأخلاقها ومرافقها.
وعلى هذا فإن (الحرية والاستقلال ليسا غاية تقصد إليها الشعوب وتسعى إليها الأمم، وإنما هما وسيلة إلى أغراض أرقى منهما وأبقى وأشمل فائدة وأعم نفعا) لقد ساق طه حسين أفكاره هذه سنة 1938 في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) بعد 1936 تاريخ المعاهدة المصرية الإنجليزية التي أنهت الاحتلال رسميا، وعام 1937 التي وقعت فيها اتفاقية منترو التي ألقت (الامتيازات) (ألبرت حوبي 332).
وعلى هذا فقد كانت أوروبا بالنسبة لطه حسين، ليست مكانا مغايرا للذات وهي برسم الآخر، بل هي المنجز الحضاري الكوني للجميع، حيث ينبغي تجاوز حدود الجهل والتأخر باتجاه فضاءات العلم والتقدم، فالحدود إذن ليست جغرافية، بل هي حدود فكرية، تضع حد التعريف والتمييز بين الجهل والعلم، التأخر والتقدم، الاستبداد والحرية، ومنطلقه في ذلك فلسفة التاريخ والمجتمع التي استمدها من ابن خلدون ومن مفكرين فرنسيين (كونت رينان، دوركهايم، أناطول فرانس) وعماد هذه الفلسفة (إن الحضارة هي غاية البشرية) وعلى هذا كانت أوروبا تمثل لطه حسين حضارة العالم الحديث، وأنه من الوهم الآثم والشنيع... تصور أنّا خلقنا من طينة غير طينة الأوروبي... ومنحنا عقولا غير العقول الأوروبية... ولذلك ينبغي أن تكون لدينا الثقة بالنفس والعقل لأن (نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم ولنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة... خيرها وشرها، حلوها ومرها) (مستقبل الثقافة ص 41 -42 - 45 عن البرت حوراني 335).
وعلى هذا فقد كان الغرب لطه حسين - حسب البرت حوراني - هو الغرب الليبرالي الديموقراطي الصناعي، الذي ينبغي امتلاك تفوقه لدفع شر هذا التفوق الذي تبدى في الظاهرة الاستعمارية. تأسيسا على هذا الفهم لعلاقة الداخل بالخارج، كان العميد سباقا لالتقاط المسألة الأساس في ظرف الاستعمار الجديد حيث لا حاجة للجيوش والأساطيل، بل لقوة السلعة والرساميل، ومن هنا ليس ثمة ملاذ من العبودية والتبعية إلا لأولئك الدين أخذوا ب (الأسباب الحقيقة للاستقلال) فيقدم اليابان مثالا على من استوعب درس الاستقلال والسيادة، بعد الهزيمة المروعة التي عاشتها، فتمثلت هذه الهزيمة ردا حضاريا: تنمويا، تقنيا، سياسيا (ديموقراطيا) وثقافيا في تمثل المنجز الحضاري الكوني الذي تنخرط فيه ذات الأمة بكل خصائصها التاريخية، دون خوف على عذراوية الهوية وبكارة الأصالة والخصوصية، فلا أصالة ولا هوية مع الانكفاء البائس على ذات عازفة، مقرورة، متكهفة خائفة من تيارات هواء العالم واستحقاقته التاريخية.
ليؤسس منظوره التنويري النهضوي هذا ليس على الفكر الغربي كونت ومنتسكيو فحسب، بل على ابن خلدون الذي سبق مونتسكيو إلى اكتشاف (مبدأ الجبر التاريخي) حسب العميد في كتابه (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية ص 44) واستناده إلى قانون ابن خلدون حول (التشابه والتباين) حيث التباين المتصل بخصوصية المجتمعات البشرية والشعوب من حيث الأسباب الطبيعية والجغرافيا والاقتصادية والسياسية، لا يتناقض مع قانون التشابه إذ جوهر هذا القانون هو الوحدة العقلية للجنس البشري (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية ص 46)، وعلى أساس هذا القانون سيكتشف العميد النزعة الإنسية عند ابن خلدون، وعلى هذا الأساس أيضا ستتكشف هذه النزعة الإنسية في منظور ورؤية طه حسين للمجتمع والإنسان والأدب والثقافة.


يتبع
*ناقد ومفكر سوري
(1)عبد الله العروي - العرب والفكر التاريخي -ص 45
(2) عبد الله العروي - العرب والفكر التاريخي - المركز الثقافي العربي ط3 - 1992 - ص45-46
(3) الهزيمة والايديولوجيا المهزومة - ص217

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved