الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 22nd March,2004 العدد : 51

الأثنين 1 ,صفر 1425

خواطر
من قديم أوراق الأديب الراحل
عبدالله بن إبراهيم الجلهم رحمه الله أعدها للنشر أ.د. عبدالكريم الأسعد
مع شخصياتٍ أدبيةٍ شهيرة..!!
وحديثنا في هذا الموضوع المعلم مع شخصيةٍ أدبيةٍ نابهة في مجال الأدب والشعر الفصيح..، ولهذه الشخصية في هذا الميدان باعٌ طويلة فارهة ملّكتها المقود وهو بطبعه نافرٌ شرود وهبها الله ملكةً فذةً وعبقريةَ شعريةً نافذة، أبدعت فيها وجاءت منها بالجواهر الجيدة والقلائد المحكمة، تلك التي تلقّفتها الذواكر والأفهام على مدى القرون والأعوام فردّدتها وأطربت لها مجالس الأدب والنقد ومحافل الجدل والتحكيم..
وشخصيتنا الأدبية المختارة لهذا الحديث هي شاعرية «بشار بن برد»، شاعرٌ عملاق ولسانٌ مسلط وثاقبُ لؤلؤ.. نشأ وترعرع في مدينة «البصرة» العراقية ذات المجد العلمي والأدبي الزاهر والزاهي وعاش فيها أواخر القرن الأول الهجري حياةً أدبيةً حافلة بالعطاء والمجد الأدبي.. وكان أبوه «برد» فارسيَّ الأصل طياناً غير ذي شأن سوى ما رسمته عبقرية الابن من اعتزاز وتمجيد بالمحتد والأصل. وقد ولد بشار أعمى، غير أن الدارس لشعره لا يستنتج هذه الصفة في خلْقه وخُلُقه بل يعده في صفوف المبصرين المنتفعين في أبصارهم وبصائرهم، وذلك لأنه يصوّر الأشياء والمحسوسات والمبصرات في شعره تصويراً حسياً يوهم القارئ الفطن بأنه ينعم ببصرٍ وبصيرةٍ نفّاذتين حاذقتين.. ولولا أنه جاد بشعره ذات مرة فصرّح بعماه لكان من العسير التعرف عليه من خلال شعره.. لكنه يشير إلى هذه الصفة إشارةً عابرة تحمل التأويل والطّرافة بأن للعمى في تصوره محاسن فائقة ومدخراتٍ عجيبةً فياضة تتصف بالذكاء وتتميز بالعمل والتحصيل.. ولذلك يقول:
«عميتُ جنيناً والذكاء من العمى
فجئتُ عجيبَ الظّن للعلم موئلا»
وغاض ضياءُ العين للعلم رافدا
بقلبٍ إذا ما ضيّع الناس حصّلا»
عاش «بشارٌ» كما سبق التنويه في مدينة «البصرة» حيث كانت حافلة آنذاك من تاريخها بألوان شتى من المعارف والثقافات فأتاحت له أن يرتوي عقله ومواهبه من ذلك المعين ويستزيد حتى بلغ مكاناً مرموقاً بين تلك الأوساط والمنتديات العلمية والأدبية.. وكان «بشارٌ» إلى جانب نبوغه الأدبي خطيباً بليغاً شديد الذكاء والفطنة، سريع الخاطر والجواب.. دخل ذات يوم على الخليفة «المهدي» لينشده من شعره الحديث فوجد في مجلسه خالاً له جالساً بجانبه، فلما فرغ من إنشاده واستقر في مكانه من المجلس سأله خال الخليفة قائلاً: «ما صناعتك أيها الشيخ..؟ فردّ عليه من فوره: «أثقب اللؤلؤ» فغضب المهدي وقال له: أتهزأ بخالي؟! فأجابه «بشار»: وما عساني أن أقول لرجل يرى شيخاً أعمى يُنشد الشعر ثم يسأل عن صناعته..»؟!
وأبو معاذ وهذه كُنية بشار التي يكنى بها شاعرٌ مطبوع يتحدث بالشعر ويجريه عن سليقة أصيلة ذات جذور فطرية مبكرة، فقد نظم قلائد الشعر وهو في صغره وصباه فكان يؤذي بكثيره الناسَ فيتحاشونه ويشكونه إلى أبيه ليُسكت لسانه عن هجائهم والتحدث بمعائبهم.. فإذا همَّ أبوه بتأديبه أخذ يردد بصوته الغليظ بأن «ليس على الأعمى حرج» فيعرض عنه أبوه والشاكون له ويخلون سبيله إلى أن يعود في تعريضه وهجائه.
طاف «أبو معاذ» بأودية الشعر العربي وأجاد فيها وعبّر بطلاقةٍ وحرية عن مختلف ضروبه وفنونه وأغراضه فامتاز بعذوبة الألفاظ وسهولتها وسلامة التركيب ورقته دون تنافر ولا تعقيد وقد بلغ في أوصافه وبلاغته وتصويره درجةً عاليةً من الجمال والدقة والرِّقة، فهو الشاعر الذي يُفتخر في بيته الشهير:
«كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبُه»
فجمع إلى جانب الفخر جودة الوصف وسلامة التصوير ودقته حتى عُدّ في نظر النقاد والباحثين من الأبيات الخالدة المتمثلة في الشعر والبلاغة والأدب.
و«بشارٌ» هو الذي أرسل الحكمة والمثل في شعره طريَّين نفّاذين إلى المشاعر والقلوب، وظلت الأجيال على تعاقبها وفنائها تستعيدهما وتتعشقهما وتلهج بهما دون مللٍ أو بحث عن القائل ومن ذلك المورد قولُه:
«من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتكُ اللَّهجُ»
وحسبُ عشاقِ الحكمة والمثل أن تظفر بها سهامُهم وأناملهم اللاقطة ثم لا يلوون على شيء من مصادرها ونسبها إلى حين وأجل غير مسمى .
وقد تحققت ل«بشار» تلك الجوانب المفضلة في القول الأخّاذ لأنه كان واسع الاطلاع بعلوم اللغة العربية وبالثقافات الأخرى، ملمّاً بالعادات وسائر الشؤون.. وكان إلى جانب إدراكه واستعداده الفطري قويَّ الحافظة وقّاد الذهن والبصيرة، لا تغرب عن ملكته شواردُ الكلم ولا تندُّ عن بلاغته وإلهامه مشاهدُ الإبداع والصور المحكمة، ولذلك جاء شعره سلساً تستسيغه الافهام وتستعذبه المدارك والنزعات.
والمُرعَّث وهذا لقب بشار بن برد قد طرق كما سلف الذكر أغراض الشعر ومناهجه فأحكم فيها القول وسالت في مجاريها أخيلته عذبةً صداحة تطرب الأسماع وتلهم العقول والمشاعر.. تسترسل أنفاسه بالحكم والأمثال وتنساب بالوصف والتصوير وتفيض بالكآبة والعبرات.. أنصِتْ إليه وهو يرفرف مع عاطفته الأبوية عندما اختطف الموت ابنه «محمداً» من بين يديه، حيث أورق عوده وأينع صباه فأصبح الشيخ في غربة حالكة بعده وفي صراع ذميم مع الحياة بأرزائها وفجائعها الكئيبة:
«أجارتنا لا تجزعي وأنيبي
أتاني من الموت المُطلِّ نصيبي
صَبرت على خير الفُتوِّ رُزئته
ولولا اتقاء الله طال نحيبي
لعمري لقد دافعتُ موتَ محمدٍ
لو انّ المنايا ترعوي لطبيب
وما جزعي من زائل عمَّ فجعُه
ومن وِرد آباري وقصدِ شعيب»
فأصبحت أبدي للعيون تجلُّداً
ويا لَكَ من قلبٍ عليه كئيب
ولي كلَّ يوم عبرةٌ لا أُفيضُها
لأحظى بصبر أو بحطِّ ذُنُوبِ
وما نحن إلا كالخَلِيط الذي مضى
فرائسُ دهرٍ مخطئ ومصيب
نؤمل عيشاً في حياةٍ ذميمةٍ
أضرَّت بأبدانٍ لنا وقلوبِ
وما خيرُ عيش لا يزال مُفجَّعاً
بموت نعيم أو فراق حبيب
إذا شئتُ راعتني مقيماً وظاعناً
مصارعُ شُبَّانٍ لديّ وشيبِ
وفي مجال الحكمة والمثل، انطلقت من فم «بشارٍ» نفثات حية تلقفتها المسامعُ والذواكر فوعتها وطربت لها وتناقلتها مجالسُ الأدب والنقد جيلاً بعد جيل روايةً واستحساناً واستساغةً حتى أسمعت أولي المسامع النافرة والنظرات الجامحة فهتفوا لها مستحسنين ويستبين هذا المنهج على سبيل المثال العاجل فيما سجلته شاعريتُه بإحدى المناسبات التي أناخ مطاياه في رحابها ليمجد فيها الخليفة الأموي «مروان بن محمد» ويفاخر بسادته أبناء قبيلة «قيس عَيْلان»:
«جفا ودُّه فازورَّ أو ملّ صاحبُه
وأزرى به أن لا يزالَ يعاتبُهْ
خليليّ لا تستنكرا لوعة الهوى
ولا لوعةَ المحزون شطَّت حَبائبهْ
إذا كان ذواقاً أخوك من الهوى
مُوجّهةً في كل أوْب ركائبهْ
فخل له وجه الفراق ولا تكنْ
مطيةَ رحَّالٍ كثيرٍ مذاهبُهْ
أخوك الذي إنْ رِبْتَه قال إنما
أرَبْتُ وإن عاتبته لان جانبُهْ
إذا كنتَ في كل الذنوب مُعاتباً
صديقك لم تلق الذي لا تُعاتبهْ
فعِش واحداً أو صل أخاك فإنه
مُقارفُ ذنبٍ مرةً ومُجانبُهْ
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
ظمئتَ وأيُّ الناس تصفو مشاربُهْ»
وهو الذي نصح قومه وآساهم وأودعهم خزائن إلهامه وتراثه ثم وَدّعهم بقوله الحكيم:
«أن قد نصحت لكم بالجود من جدتي
وهل تجود يدٌ إلا بما تجدُ»؟!
ويطول بمطايا السائرين الطريق نحو مآثر «بشّارٍ» وثروته الأدبية الطائلة وحسبُه أنه أودعها خزائن العروبة والعربية دون أقفالٍ موصدة لترثها الأجيال عنه فتحسن وراثتها فإنها كنوزٌ ومغانمُ ميسورة لا تتطلب منها سوى الالتفاتِ إلى نبعها الدافق في بصيرةٍ ظامئةٍ إلى مائها النقي المسكوب.

عبدالله إبراهيم الجلهم
الرياض 5/9/1388هـ

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
منابر
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved