الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 22nd March,2004 العدد : 51

الأثنين 1 ,صفر 1425

في نظرية الرواية العربية (3)
د. سلطان سعد القحطاني

تحدثنا من قبل عن علاقة البطل بالآخرين، وهي علاقة يشوبها الخوف والحذر، حتى مع أنيسة، وكانت أنيسة الشخصية الثانية في الرواية، والأولى في حياة البطل الذي فشل في اكتسابها، كما فشل الكثير غيره عندما سنحت الفرص لهم ثم أضاعوها وان كان البطل قد غلب على أمره، وحيل بينه وبينها، في قضية أزلية طبقية، فقد كان الأولى ان يفيض فيها أكثر من إفاضته في السرد الخبري عن أصدقائه ومغامراتهم العادية.
أما الشخصية الثالثة في الرواية فكان زكي غنيم الذي أعطاه الكاتب أكثر مما يستحق، وإن كان هناك من مبرر لهذا العطف، فقد يكون الغموض الشديد الذي يحيط بتلك الشخصية الاسطورية الرافضة لظروف العصر ومعطياته، إلا أن يكون ابن الأرض الوفي، ولم يكن موقف زكي بأكثر من العادي في السرد الروائي، بل كل أصدقاء البطل اخذوا أدوارهم كاملة، ومن خلال الوصف الدقيق لكل منهم، بجانب الوصف العام لعائلة العامري وهي العائلة التي ينتمي إليها البطل السارد، ويذكر ما يشيد به عمه عبدالرزاق بعائلته وأنهم ليسوا مثل بعض العائلات، وخاصة عائلة أنيسة التي أحبها، وان جدهم عامر قام بالتصدي للأتراك قبل دخول الأحساء، يقول: فقد كتب عبدالرحمن بحثاً صغيراً عن تاريخ العامري أوضح فيه بجلاء فترة الكفاح التي قادها جدنا الأول عامر ضد الأتراك إبان حملتهم على الأحساء كان ذلك في عهد الخليفة العثماني مدحت باشا عام 1871م ص31 والحقيقة أن مدحت باشا لم يكن هو الخليفة بل كان والياً على البصرة ثم الأحساء، والكاتب يرمز للتطرف العرقي بشيء من الاستهجان وإلى كتابة التاريخ بشيء من الموضوعية التي يفتقدها التاريخ العربي في الكثير من فصوله ومثله العادات والمعتقدات البالية المتعلقة بالتاريخ نفسه، مثل الاخبار التي وردت عن الحسين بن علي رضي الله عنهما، ومقتله المختلف عليه إلى الآن ومكان قبره، الذي تدّعي بعض البلاد العربية انه موجود فيها، لتجلب اكبر كم من الزوار كنوع من التنشيط السياحي والمبالغات في الأنساب والحرف وغيرها التي جعلت من المجتمع مجتمعا ينظر إلى الماضي وما فيه من السلبيات والايجابيات، يقبلها على ما فيها من الخطأ والصواب، ويعيش حياة روحانية في ماضيها لم ينتبه أصحابها إلى معطيات الحاضر حتى ان البعض يؤبن نفسه وهو لا يزال على قيد الحياة، لكنه في الوقت نفسه يظهر براعة الاحسائيين في التجارة والزراعة وطرق الأبواب المتعددة لطلب الرزق مثل خاله عبداللطيف..
والرواية في مجملها صورة عن الأحساء بصفة عامة وعن الهفوف بصفة خاصة وقد ربطها بأسرة العامري كمحور أساسي، وبقية الأسر محاور مساندة في السرد الروائي كأسرة السويلم والسعدي اللتين يرى عمه عبدالرزاق انهما أقل منهم منزلة اجتماعية، ولم يفت على المؤلف قضية الطفولة الاحسائية وتعلق الأطفال بالمياه الجارية الكثيرة في هذا الاقليم وحب الأطفال للماء والسباحة، وهي عادة من عادات أهل هذه البلاد والمرح الذي يجريه الكبار والصغار في البساتين الكثيرة في أيام الصيف الحارة بين الثمار والخضرة الدائمة على مدار العام والموسمية منها، فقد استطاع الكاتب ان يصور تلك الحياة الهانئة كما هي، والتي تركت في نفوس أهل هذا البلد سحرا لا يقاوم.
يقول زكي الشخصية المثيرة في الرواية: (روحوا يا جماعة إلى أي مكان، لكن طالما أنكم شربتم من عيون الأحساء وأكلتم من رطبها.. ما راح يرتاح لكم بال ولا خاطر إلا على أرضها) ص121 وان كان البطل قد تنقل ما بين الأحساء والدمام طلبا للعيش فإنه قد نقل الاحساء معه في كل مكان كعادة الاحسائيين في حبهم لأرضهم، وعمل في الصحافة وفي التجارة ولم يوفق، وفي أثناء سفره لتعلم اللغة الإنجليزية في لندن تعرف أكثر فأكثر على حياة المرأة ولم يعد الخوف يؤرقه مثلما حصل له في الدمام عندما تعرف إلى تلك المرأة التي سلبت منه بعض المال، فالحالة هناك تختلف كلياً عن الحالة التي تعرف فيها على بعض النساء منذ أن تعرف إلى أنيسة، والبطل عماد العامري يعيش غربة الإنسان المقهور بالظروف العالمية وليست المحلية فحسب، في الدمام، المدينة التي تضمه بعد مدينة الطفولة (الهفوف) يقاسي فيها الغربة الروحية وقد جمعته الغربة بغرباء مثله، من السودان وسوريا ومصر، كل هؤلاء عرب يعيشون نفس المصير الذي يعيشه عماد، ويناقشون قضايا العالم العربي بمنطق المثقف المهمش، وبالرغم من أنهم يعلمون ذلك جميعاً فإنهم يواصلون الحديث فيه بلا جدوى، ولكن الغربة الحقيقية تبدأ منذ نزوله في لندن، حيث جاء للدراسة، وسكن مع إحدى العائلات على العادة المتبعة في مثل هذه الظروف، ومن المفارقات العجيبة أن الأسرة تمتلك كلباً وقطة في الوقت نفسه؟؟
الحلقة الثانية والعشرون لب الرواية، ففيها تفيض مشاعر الإنسان عندما يجد الماضي الجميل يتهاوى في لحظات يودعه فيها إلى غير رجعة، كان ذلك ما وصفه الكاتب يوم هدم الحي المعروف (الفوارس) حيث فرقه الشارع الذي سمي باسمه، وشيء جميل ان بقي الشارع بهذا الاسم الدال على أثر العين وهذه من الضرائب التي تدفع للمدينة، فقد تفرق الجيران في أحياء جديدة وتوسعت البيوت، ولم تعد العائلات في بيت واحد، هذا ما لم ينس الكاتب ذكره والتوجع من اجله، وعلى أي حال، فالكاتب قدم عملا جميلا وضع فيه أحاسيسه برؤية المستقبل وذكريات الماضي وان كان يؤخذ عليه ضعف اللغة وكثرة الأخطاء النحوية والإملائية والتراكيب الاسلوبية وكثرة الاسترجاع وتكرار بعض المشاهد والنهاية الهلامية وان كنا نعتبرها نهاية مفتوحة لكنها ضعيفة، ومازال اسلوب القصة القصيرة يسيطر على ذهنية الكاتب الكتابية، فبعض المشاهد يكاد ينفصل ليكون قصة قصيرة، كما أن الكاتب حشد في الرواية مشاهد ما كان يجب أن تكون فيها، تلك هي التقارير التي شغلت حيزاً من العمل لم تعد على العمل الروائي بفائدة، وأعود مرة ثانية فأقول: (إن حسن الشيخ قدم عمله الروائي الأول على شكل سيرة ذاتية، والسيرة الذاتية مادة من مواد الرواية لكنها لا تعني المصطلح الفني للسيرة الذاتية واستطاع الكاتب ان يوظف الكثير من عناصرها المهمة في العمل الروائي، ويحتاج الكاتب إلى تكرار التجربة مرات عديدة، لإتقان عمل روائي جديد، وهذه هي الرواية الأولى عن الأحساء وهي بلد ثري بتراثه الفني وعاداته العريقة، ولم يكتب عنه إلا القليل، قبل هذه الرواية، وكان هناك عمل رومانسي كتبته بهية بوسبيت (امرأة على فوهة بركان) وما كتبه المؤرخون والرحالة، وهذا الفن من الرواية جديد على البناء الروائي التقليدي ونحن من المنتظرين لعمل آخر، مع ميلاد هذا العمل الفواح برائحة المكان ومعاناة الإنسان اليومية، وإن كان هناك من الهنات الواضحة في العمل، فإن تجربة الكاتب الأولى تشفع له، ومادامت الموهبة موجودة فالأمل في عمل جديد تحمله اللغة الروائية المكتوبة لكل متلق يبحث عن جماليات الفن الروائي الجميل.
تحدثنا فيما مضى عن رومانسية المكان في الرواية العربية الحديثة، وما يزال الحديث موصولا حول هذه الظاهرة التي طرأت على الرواية السعودية في السنوات القليلة الماضية، وللمكان في الذاكرة العربية والعالمية مكانة عالية وتقدير تحكمه العاطفة وليس هذا بمربط الفرس كما تقول العرب، ولكن ما يعنينا في هذا الموضوع (الصياغة) الفنية، ونحن نطرح نظرية جديدة للرواية العربية، التي عاش نقدها على النظرية الغربية التي نظر إليها النقاد الغربيون من منطلق بيئاتهم فالروائي الشهير (بلزاك) وهو أشهر الروائيين في عصره، لم يكن مهموما باللغة الروائية بقدر ما هو مهوم بالبيئة الفرنسية والعادات الدارجة فيها مما جعل عمال المطبعة يحتجون على إهماله للغة الفصيحة، فقد ضحى باللغة في سبيل البيئة، وهذا ليس مبرراً لضعفه اللغوي وان كان الدكتور محمود زيني قد ذكر ذلك في بحث تقدم به إلى مؤتمر الرواية باعتبارها الأقوى حضوراً، المنعقد في رحاب نادي القصيم الأدبي، في الفترة الواقعة ما بين 30/12/23 إلى 4/1/1424، ولم يبرر الدكتور زيني سبب خروج بلزاك بهذا المذهب، في وقت مبكر على أنها تجربة لم يتحقق لها النجاح، وعلى أي حال، فالضعف اللغوي الذي ظهر في الرواية العربية في العقود الأخيرة لم يكن له مبرر على الإطلاق كما انه لم يكن للتقعر الذي ظهر عند بعض الناثرين في بداية النهضة مبرر أيضا وقد يكون من المستغرب عند بعض الباحثين وجود لغة خاصة للرواية وليس الأمر على علاته كما يتصور البعض، ولو كان الأمر كذلك لكان هناك نوع من الصناعة المتكلفة في ايجاد لغة خاصة بالرواية عن غيرها، لكن المقصود هنا وجود لغة سهلة التناول للجميع، فالرواية فن جماهيري، وليست فناً نخبوياً موجها لفئة دون غيرها كما انها في الوقت نفسه فن المكاشفة الفنية، ولنا في الحلقات القادمة وقفات مطولة مع الرواية بنوعيها.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
منابر
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved