الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 22nd May,2006 العدد : 154

الأثنين 24 ,ربيع الثاني 1427

مساقات
شِعْرِيَّةُ القِيَم
(قراءة في خطاب حمزة شحاتة نموذجًا)«5»
د. عبد الله الفَيْفي

-1-
أشرنا في المساق الماضي إلى أن ما يصفه (حمزة شحاتة) في محاضرته (الرجولة عماد الخلق الفضل) (شجاعة) هو شبيه بما يصفه في شعره؛ من حيث هو متأرجحٌ بين نوازع التوحّش والطيش، وليس بقيمة الشجاعة بمعناها العقليّ والروحيّ، الباعثة على طمأنينة النفس الواثقة بمقدّراتها، لا عن جهل ولا اندفاع، وتلك خصلة نفسية تكون في الأسوياء من بني الإنسان. وفي المقابل فإن (الجُبن) ليس بمجرد الخوف، كما ذهب الكاتب، أو ضنانة الحيّ بروحه وحرصه على صيانتها؛ فالخوف غريزة إنسانية لدى الشجاع والجبان، كما قال هو، شعرًا، من قصيدته (ملحمة)(1)- فأصاب المنطق أكثر:
أيبيع الحياةَ؟ كلاّ، ولا عا
شَ شُجاعٌ بالعُمْرِ غيرُ ضَنِيْنِ
....... ........
ذَلّ من خاف، فالحياةُ غِلابٌ
فازَ فيهِ الأَحَدُّ نابًا وظُفْرا
إلا أن الخوف يتحوّل في نفس الجبان إلى مرضٍ، يهوّل في عينيه التوقّعات، ويضخّم في خياله النتائج بأضعاف ما قد يحتمله الواقع.
على أن ثمة فرقًا بين (القِيَم) من جهة- التي هي نماذج اجتماعية عامة، تتشكّل ذهنيًّا ونفسيًّا، وتترتّب عليها نظرة المجتمع الإيجابية أو السلبية إلى الأشياء، وهي دائمة الحراك والتبدل زمانًا ومكانًا(2)- وبين الأخلاق المعيارية، التي تدور على الأفعال الإنسانية، من حيث هي خير أو شرّ(3). إلا أن شحاتة لم يكن يتنبّه إلى هذا التفريق، فظلّ معيار الحكم لديه أخلاقيًّا.
بدليل أنه كان يناقش ما يندرج في مفهوم القِيَم، ك(الرجولة)، أو يمكن أن يندرج فيه- كالشجاعة، والكَرَم- وفق رؤية أخلاقيّة، تستمدّ معاييرها من دائرتي الخير والشرّ.
ثم ينطلق- بعد أن ساوى الكَرَم بالبخل، والشجاعة بالجُبن، بل قدّم البُخل والجُبن في ميزان العقل والنفس- إلى القول إنه (قد قاد الشعور بهذا التداخل- فيما نرجّح- بعض الفلاسفة قديمًا وحديثًا إلى اعتبار الفضيلة وسطًا بين رذيلتين، فالكَرَم عندهم وسط بين رذيلتين، البخل والسَّرَف، والشجاعة وسط بين رذيلتين، الجبن والتهوّر.) (4) وكأن الشعور بالتداخل بين القِيَم لدى بعض الفلاسفة قديمًا وحديثًا مسوّغ لفهم انتفاء الفواصل وتساوي القِيَم بسلبيّها وإيجابيّها! وكأن النسبية لديه منتفية في الحُكم على القِيَم، فإمّا أن يكون الكَرَم خيرًا بإطلاق، أو أن يكون البُخل شرًّا بإطلاق، أو يكونا شيئًا واحدًا! وكذلك الشأن في الشجاعة والجُبن.
ولمّا تطرّق إلى القيم الأخلاقيّة الصرفة، مضى إلى القول بأن ثمة فضائل لا تقبل التقسيم الذي رآه في الشجاعة والكَرَم، بحيث لا تنزل فضيلة منها منزلةً وسَطًا بين رذيلتين، وذلك كالأمانة، والصدق، والعِفّة وأمثالها، فقال: إن (الأمين يكون أمينًا كلما بالغ في أمانته، والخائن يكون خائنًا مهما قصر به مدى خيانته، ويكون صادقًا أو كاذبًا، ولا وسط. وللمبالغة بعد حدودها وصيغها الفكرية واللغوية.)(5).
وهكذا، فكما جاءت أحكامه على القِيَم الاجتماعية العامة ماديّة، اتجهت أحكامه على القِيَم الأخلاقيّة إلى النقيض في الطرف المثاليّ. هذا على الرغم من أن ضرورات الحياة الاجتماعية قد تجعل بعض الكذب مبرّرًا، وبعض الصدق وسيلة قتل أو إفساد. وكذا القول في الأمانة؛ فهي مرهونة بنتائجها، وطبيعة ما اؤتمن المرء عليه(6). ومن هذا المنطلق فمثلما أنه ليس في القِيَم عمومًا ما هو ماديٌّ مطلقٌ، فليس فيها ما هو مثاليّ مطلق، وإنما يتوقّف الأمر على جلب المصالح ودرء المفاسد، فما القِيَم إلاّ عُملات اجتماعية، تختلف باختلاف الزمان والمكان، متى تحقّقت لها الوظيفة كانت مشروعة، ومتى انتفت كانت خارجة عن وظيفتها، ومتى ترتّبتْ عليها المفاسد صارت شرًّا لا خيرًا.
إن القِيَم- كما يدرسها مثلاً: (ماكس شيلر Max Scheler) في (فينومنولوجيا القِيَم)، أو (كارل منهايم (K.Mannheim) في (علم اجتماع المعرفة)(7) - تُمثّل حقائق اجتماعية، تقوم على أصول سلوكية مشتركة ، وليست بمثاليّة مجرّدة ولا ماديّة بحتة.
-2-
ولقد نازعتْ المؤلّف عاطفته الدينية في كلامه على القِيَم الدينية، فإذا هو يعود عمّا قال، دون أن يلتفت إلى مقاييسه السابقة، التي كان يمكن أن يقول بها عن القِيَم الدينية أيضًا، بما أن قانون العقاب والثواب موجود هناك وهنا، وإن كان قانونًا إلهيًّا مؤجّلاً. فهو يقول: (أمّا الفضائل التي نراها خليقة بهذه التسمية، فهي التي نزل بها القرآن ودعا إليها. تلك فضائل، لا يكون للمتّصف بها، والمؤمن بقوانينها، نظر إلى مصلحة أو سمعة.. وإن كان شيء من ذلك فالمثوبة عند الله، والزلفى إليه.)(8)
وليس التفريق لدى المؤلّف بين ما يسمّيه (المحاسن) وما يسمّيه (الفضائل) إلا تفريقًا لفظيًّا؛ فكما أن القِيَم الاجتماعية تُرجى من ورائها المصالح والمكاسب، فإن القِيَم الدينية كذلك تُرجى من ورائها المصالح والمكاسب، وإن كانت مؤجّلة مرجوّة في الدار الآخرة، ومن تلك المكاسب ما يناله الفاضل الدينيّ من لَذّات فكريّة، ومُتَعٍ نفسيّة، ورغبة فيما عند الله. وما دَفَع المؤلّف إلى التفريق بين (المحاسن) و(الفضائل) إلا التحرّج ممّا كان قد قرّره عن القِيَم الاجتماعية أن يقول ما قاله فيها- من أنها ليست مُثُلاً عُليا، لكنها مقدّمات لنتائج، وعُملات اجتماعية تُشترَى بها المصالح والمكاسب- عن القِيَم الدينية. ولكن ألم ترتبط القِيَم في المجتمعات البشريّة بعقائد لا تقلّ قوّةً عن العقائد الدينيّة، إن لم تكن بالفعل عقائد دينيّة، إنْ صحيحة أو باطلة؟! ذلك ما سيناقشه المقال المقبل، بمشيئة الله.
إحالات
(1) (1988)، ديوان حمزة شحاتة، (الطبعة الأولى: ؟)، 257- 258.
(2) إلى تفصيل هذا تطرّق الباحث في دراسة أخرى، لمّا تُنشر بعد، بعنوان (نقد القِيَم). ويُنظر أيضًا: الزلباني، محمّد محمّد، (1972- 1973)، القيم الاجتماعية: مدخلاً للدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية، الكتاب الأول: الخلفية النظرية للقِيَم، (القاهرة: مطبعة الاستقلال الكبرى)، 19 .
(3) يُنظر مثلاً: وهبة، مجدي، (1974)، معجم مصطلحات الأدب، (بيروت: مكتبة لبنان)، 152.
(4) شحاتة، حمزة، (1981)، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، (جدة: تهامة)، 73.
(5) شحاتة، م.ن.، 73.
(6) فلو اؤتمن إنسانٌ مثلاً على مالٍ مزوّرٍ دون أن يعلم، ثم عَلِمَ بحال ذلك المال، أفمن الأمانة- والحالة هذه- أن يؤدي الأمانة إلى أهلها؟!.
(7) يُنظر: قنصوه، صلاح، (1987)، نظرية القيمة في الفكر المعاصر، (القاهرة: دار الثقافة)، 1: 64- 65.
(8) شحاتة، م.ن.، 79 .


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved