الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 22nd May,2006 العدد : 154

الأثنين 24 ,ربيع الثاني 1427

أسطوانة الصوت
قاسم حول

شاعر موهوب، غاضب، يشعر بالحيف من كل ما أحيط به: الفقر والغنى والمدينة والنهر والحرية والعبودية وفرص النشر والتألق والانزواء. وصل إلى الأرض المنخفضة (هولندا) قبل عدة سنوات ورن هاتفي وكان صوته على الهاتف. أريد أن نلتقي فعندي من الهموم ما أود أن أقولها إليك. الصوت كان صوت الشاعر كمال السبتي. لم أكن قد التقيت بالشاعر قبل هذه المكالمة ولكني سمعت عنه الكثير الجميل في موهبته مبدعا.
جلسنا على شاطئ بحر الشمال في مدينة لاهاي الهولندية في يوم مشمس وأمامنا امتداد البحر وثمة صورة ضبابية لباخرة ترحل كأنها تسافر نحو اللانهاية.
كان حديثنا عن الرحيل.. رحيل طيور السنونو التي ارتبطت بها مذ كنت صغيرا وعن رحيل النوارس التي كانت تمر من أمامنا ورحيل المثقفين في العراق إلى بلدان الدنيا. شكا لي بمنطق الهادئ ما يحيط به وكان مجروحا في الفؤاد ويود أن يتخلص من الملاحقة، ليست ملاحقة السلطة ولا ملاحقة الشرطة، ولكن ملاحقة الأحباب من أبناء جلدته ما جعله يفر من عالم يعشقه، وذكرته بما قاله تشيخوف في ضرر التبغ (أود أن أتحول إلى شجرة أو عمود كهرباء أو فزاعة عصافير وأقبع تحت السماء الواسعة.. وهنالك أنسى.. أنسى كل شيء) مرت السنوات الطويلة، وكنا نتهاتف بين الحين والحين، فهو في مدينة بعيدة عن مدينتي حتى التقينا ذات يوم في مدريد للتعرف على تجربة القوانين الإسبانية بعد سقوط فرانكو عسى أن نتعلم منها ما يفيد الوطن بعد أن سقط الدكتاتور واختفى.
جلس كمال السبتي معي حزينا سألته (لماذا؟) قال: ماذا سنقول للناس هنا في هذا المؤتمر.. ماذا سنقول للإسبان؟ فليس عندنا حتى دكتاتور مثل دكتاتوريي البشر، فهتلر أطلق على نفسه النار واختفى.. ماذا سنقول لهم عن دكتاتور بلادنا الذي كان جبانا وسلم نفسه لقوات الاحتلال وصاروا يبحثون في شعره عن القمل وفي فمه عن أسنان صناعية.
أنا خجل من الدكتاتور مرتين، مرة لأنه حكمنا ومرة لأنه لم ينتحر انتصارا لكرامته وكرامتنا.
جلسنا في صالة اللقاء. جلس السياسيون. همس في أذني: من المفروض والطبيعي أن نكون نحن على المنصة وهؤلاء يكونون في الصالة.
لم يعد للمثقف حضور.. شيء مؤسف حقا. كان المفروض أن يفتح الاحتفال بعرض فيلمي (الأهوار) لكن الفيلم لم يعرض بحجة عدم توافر جهاز العرض. صعد رئيس وزراء إسبانيا على المنصة وسأل عريف الحفل الذي قدمه لإلقاء كلمته، وقال بصوت مسموع: إن البرنامج يبدأ بفيلم عراقي عن أهوار العراق. فقال له عريف الحفل لم يتوافر لدينا جهاز للعرض، فابتسم رئيس وزراء إسبانيا وبدأ كلمته بالقول (أحيي السينمائيين العراقيين في هذه الصالة).
أدركنا كمال السبتي وأنا حجم المسافة بين التحضر والتخلف. وفي حفل الغداء رفضنا أن نشارك السياسيين طاولات طعامهم وعزلنا أنفسنا.. أنفسهم هؤلاء الذين نراهم الآن على شاشات التلفزة والذين يحتقرون الثقافة والمثقف. قضينا أوقاتا لا معنى لها في المؤتمر سوى أن المشرّع القانوني الذي صاغ القوانين الجديدة في إسبانيا حدثنا عن تجربة في صياغة القوانين الجديدة، وكيف نظر إلى الواقع بعد سقوط الدكتاتورية في إسبانيا ونظم قوانين هذا الواقع.
أما الجلسات العراقية فكان واضحا أنها تشبه لعبة الكراسي التي تعلماها في المدرسة الابتدائية. كان أفضل لنا في مثل هذه الحالة أن نمشي في شوارع مدريد ونشبع من الشمس التي لا تزورنا في الأرض المنخفضة، وأن نتمعن في أعمال بيكاسو في المتحف ونذهب إلى تمثال دون كيخوت ونرى الفلامنكو دون أن نقترب من مصارعة الثيران فنحن غير قادرين على مثل هذا الفعل لا في إسبانيا ولا في غيرها..!!.
فمصارعة الثيران ليست مهنتنا ولذلك تركنا الساحة نكتب شعرا، رواية، قصة، ننتج فيلما مسرحية.. وننام.
لكن الوطن، أي وطن مهما حاول الواحد منا أن يغالط بمقولة مثل خير البلاد ما حملك، أو أينما ترتاح يكون الوطن، أو إن وطني هو هذا الوادي الذي تعيش فيه البشرية..
فإن ذلك ليس سوى محض افتراء.
يبقى الوطن وغياب الوطن يعذب الذات، وكنا نخشى ونحن في إسبانيا أن نركن للنومة الأبدية ولا نرى الوطن فنحن لم نره حقيقة لأننا كنا مسكونين بالخوف، والذي يريد أن يرى وطنه لا بد أن يكون حرا.
قلت له يا كمال أنا لم أر وطني حقيقة.
لم أشم نسيمات هوائه
ولا ارتويت بمائه
ولا شبعت بزاده
ولا غمرت بحنانه
قال لي أتريدني أن أبكي هنا في إسبانيا.. دعنا نمشي ونمشي ونمشي حتى نتعب ونعود لننام لكي لا تجمعنا صالة الأوتيل برجال السياسية الذين سيحكمون مصيرنا من جديد.
في اليوم التالي أجرت معنا قناة إسبانية حديثا عن الثقافة في العراق فاتفقنا أن نقول كل شيء بوضوح.
علينا أن ننسى المؤتمر ونرفض الحديث عنه فلقد كنا في الصالة ولم نكن في المنصة حيث ينبغي أن نكون.
عدنا كل إلى مدينته.. وصرنا نتهاتف بين الحين والحين.. مكالمات متباعدة.. فلم يعد ثمة ما يقال ونحن نرى الخراب السياسي والثقافي يغزوان الوطن.
ذات يوم بدأ الأصدقاء يستفسرون إن كان أحدهم يعرف شيئا عن كمال السبتي فيما إذا كان مسافرا أو ربما ضيفا عند صديق، لكن اليوم صار يومين، واليومان صارا ثلاثة، والثلاثة أيام صارت أربعة. واسطوانة الصوت تدور في داره، هذا هاتف كمال السبتي. الرجاء أن تترك اسمك ورقم هاتفك وسأتصل بك عند عودتي.
ظلت أسطوانة الصوت تدور وكمال السبتي لم يعد إلى داره، فلم يكن مسافرا بل كان نائما على سريره في الدار، وأسطوانة الصوت تدور (هذا هاتف كمال السبتي. الرجاء أن تترك اسمك ورقم هاتفك وسأتصل بك عند عودتي) كان نائما وكان يتعذر عليه الرد ويتعذر عليه الحلم.
ذهب بعد ذلك إلى مدينته..
مدينة الناصرية.. مدينة الغناء.. لم يكن مع المسافرين هذه المرة بل كان مع الحقائب.. ودفن هناك في مدينته، مدينة الغناء.. للناصرية.. للناصرية بو جناغ أروح وياك.. للناصرية باثنين إيديه.. باثنين إيديه تعطش وأشربك ماي.. باثنين إيديه. وداعا كمال السبتي.


Sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved