الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 22nd May,2006 العدد : 154

الأثنين 24 ,ربيع الثاني 1427

من (زمن درويش) إلى زمن الشعر
قد لا يكون الكبار بحاجة إلى أن نكتب عنهم، أو نشهد عليهم، إلاّ أنّنا نحن بحاجة إلى أن نفعل ذلك، لنستوثق من قدرتنا على الإحساس بما حولنا، وبمن حولنا، وبأنّنا ما زلنا نلاحظ وجود غير أجسادنا في الحياة.
يمكن أن أقول إنّ (زمن درويش) الذي قدّمته الجزيرة الثقافيّة، استطاع في يوم واحد أن ينتشلني من بلادة الحالة الثقافيّة، وتناسخها لا إلى زمن درويش فحسب، بل إلى زمن الشعر! زمن الشعر الذي يبدو لي الآن سحيقاً، ومغيّباً داخل ألف كهف وكهف، لكنّ عدد (زمن درويش) أعادني إليه، أو أعاده إليّ، حيث التشكيل الأوّل للإحساس بمعنى أكثر نبلاً للحياة، وللكتابة، وللثقافة.
فإذا ما كانت الإضاءات النقديّة التي قدّمها الدارسون، والمنطلقات الفكريّة والوجدانيّة للقائمين على هذا الملحق التي حدتهم على اختيار الكتابة عن زمن درويش، تبعث جميعها الرغبة في الشغل لإنجاز دراسة ناضجة تكشف عن سرّ حجر الفلاسفة الذي يلعب به درويش كالخدروف، فيحوّل منطوقنا اليوميّ شعراً، فإنّ حضور بعض الشخصيّات في هذا العدد إلى جانب درويش لا بدّ أن تستدعي لدى أبناء جيلي أسئلة الثقافة بوجهيها: الأنثروبولوجي، والجماليّ.
إنّ مطالعتي لعدد (زمن درويش) جعلتني أفكّر مليّاً أنْ كيف يكوّن الشعر ثقافة الفرد، وثقافة الأمّة! إنّ حضور سليمان العيسى إلى جانب درويش، أعادني إلى زمن التكوين الأوّل، إلى أكثر من عشرين سنة خلت، فرفعت سمّاعة الهاتف، وشكرت أمّي! ففي يوم من ذلك الزمن، وفي مدينتي الصغيرة النائية، كان ثمّة معرض للكتاب، فأمسكت أمّي بيدي الصغيرة إليه، وانتقت لنا ثلاثة كتب: باقة نثر ل (سليمان العيسى)، و(حب وبطولة) مختارات شعريّة ل (سليمان العيسى) أيضاً، و(حصار لمدائح البحر) ل (محمود درويش).
لم يكن أحد يعرف أنّ هذه الكتب الثلاثة ستساهم في تشكيل حياتي! ففي باقة نثر، عرفت الجذور الطبيعيّة للانتماء، فالإحساس بالهويّة مع (وائل يبحث عن وطنه الكبير)، ومن (حب وبطولة) حفظت عن ظهر قلب قصائد أربعاً انتقتها أمّي هي: أمّتي هل لك بين الأمم (عمر أبو ريشة)، وأكبادنا تمشي على الأرض (حطّان بن المعلى)، وإنّ الكرام قليل (السموءل)، وبطاقة هويّة (محمود درويش).
أمّا ذلك الديوان المجلّل بصورة رجل بالأبيض والأسود، فقد صار فيما بعد من نسيج حياتي، ووقودها، وصرت معه مثلما كانت هيلينا أوديسيوس مع نسيج النول، أقرأ، لأنسى، ثمّ أقرأ لأنسى.
لم يكن هو ديوان درويش الأوّل الذي أتعرّف إليه، فقد كان في مكتبة المنزل أكثر من ديوان أذكر منها (العصافير تموت في الجليل)، لكنّه كان، بالنسبة إلى طفلة، مختلفاً بالشكل، وبالنغمة فيه، ثمّ إنّه كان لي.
لقد حقّق لي الصحفي الأستاذ عبد الكريم العفنان شيئاً من رغبة انتابتني في ذلك الزمن؛ أن أطلّ على عالم تلك الصورة بالأبيض والأسود، وأجمل ما في الأمر، أنّه أبقانا في إطلالة، فأنا لا أريد أن نقتحم عالم درويش، من أجل أن يبقى لحياتنا معنى.
لقد أعادتني الثقافيّة في (زمن درويش) إلى ذلك كلّه، وجعلتني أقرأ من جديد خريطة حياتي التي صاغها الشعر، إذ لم تنجُ روايتي الأولى (عين الهرّ) من غواية (رحلة المتنبّي إلى مصر)، كما أنّ عبارة واحدة فيها أغرتني، وورّطتني، ف (أسلمني الرحيل إلى الرحيل)، وبتّ أبحث عن مستقرّ حتّى هذه اللحظة.
نعم إنّ كلاًّ من حياتي وكتابتي تنفتحان على تأويل آخر للغواية، وعلى أنّ الشعراء يتّبعهم الغاوون حقّاً، ولكن في سياق آخر، إذ ليس ثمّة أجمل من غواية الشعر في زمن درويش!


شهلا العجيلي
أستاذة الأدب العربيّ الحديث - جامعة حلب

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved